40/01/14
الموضوع:- مبحث حجية الظواهر.
النقطة الثالثة:- كيف نثبت الظهور في عصر صدور النص ؟
وهذا البحث ليس موجوداً في الكفاية والرسائل ولكن لعله وجد إشارة إليه ولكن بعنوان بحث فلم نقرأه ، والمقصود من هذا هو أننا حينما نقرأ الرواية لاستنباط حكم منها يأتي تساؤل وهو أنَّ هذا الظهور الذي يحصل لك هو ظهور في زماننا ومن قال إن هذا الظهور كان ثابتاً في عصر صدور النص ، فالمهم هو ذاك الظهور لا هذا الظهور ، وعليه فكيف نثبت الظهور في عصر صدور النص بعد الالتفات إلى أنَّ الثابت هو الظهور في زماننا والذي نريده هو الظهور في عصر صدور النص . هذه القضية نريد بحثها هنا ، فكيف نثبت الظهور في عصر صدور النص ؟
وفي هذا المجال نقول:- تارة نجزم بأنَّ هذا الظهور في زماننا هو نفس ذلك الظهور في عصر النص ومعه لا إشكال ، وإذا جزمنا بالمغايرة فأيضاً لا إشكال ، وإنما الاشكال فيما لو شككنا كما هي الحالة المتعارفة ، فكيف نثبت أنَّ هذا الظهور في زماننا هو عين الظهور في زمان صدور النص ؟
وأتذكر من المعالم في مثل صيغة ( افعل ) قال لا إشكال في أن المتبادر منها هو الوجوب في زماننا فإنَّ المتفاهم عرفاً هو ذلك وبضم أصالة عدم النقل يثبت أنها موضوعة لذلك في عصر النص أيضاً.
فهو قال ( وبأصالة عدم النقل يثبت ذلك شرعاً أيضاً ) ، وهذه العبارة كررها في المعالم في موارد متعددة حيث تمسّك بأصالة عدم النقل ، وهذه أصالة عدم النقل يمكن أن نعبّر عنها بتعبير آخر وهو ( استصحاب القهقرى ) ، فإن الاستصحاب المتعارف يكون زمان اليقين فيه سابقاً ونشك الآن في الحال ، فصباحاً توضأت والآن أشك هل الوضوء باقٍ أو لا فاستصحب الوضوء من الماضي إلى الحال ، أما في استصحاب القهقرى فبالعكس ، ففي الحال واضح فالآن يوجد ظهور فصيغة ( افعل ) ظاهرة في الوجوب وإنما الكلام في الزمن الماضي قبل ألف سنة مثلاً ، وهذه قهقرى إلى الوراء إن صحّ التعبير ، فزمان اليقين الآن وزمان الشك فيما مضى ، بخلاف الاستصحاب المتعارف فإنَّ زمان اليقين فيه هو ما مضى وزمان الشك الآن ، فاستصحاب القهقرى بالعكس تماماً ، فأصالة عدم النقل هي عبارة أخرى عن استصحاب القهقرى ، أو أن لها اسماً ثالثاً وهو ( أصالة الثبات في اللغة ).
ولكن وإن ذكر صاحب المعالم هذا ولكن التساؤل يبقى ، فما هو المدرك لأصالة عدم النقل الذي هو عبارة أخرى عن استصحاب القهقرى بعد الالتفات إلى أنَّ روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ) لا يمكن التمسك بها لأن المفهوم منها ( لا تنقض اليقين ) يعني السابق يعني أنَّ الحالة المتيقنة سابقة والشك الآن ، بينما في استصحاب القهقرى يكون ( لا تنقض اليقين الآن بالشك فيما سبق ) ، فالروايات حينما قالت ( لا تنقض اليقين بالشك ) يمكن أن يقول المفهوم منها عرفاً هو الحالة المتعارفة وهو تقدم اليقين وحاليّة الشك ، أي يكون الشك الآن ، أما حالة العكس بأن يكون اليقين الآن والشك فيما سبق فهذا لا يشمله ( لا تنقض اليقين بالشك ) ، وعلى الأقل الظهور ليس موجوداً فهو مجمل من هذه الناحية والقدر المتيقن أنَّ الظهور موجود وواضح في الحالة المتعارفة دون الحالة العكسية ، فإذن ما هو المدرك لأصالة عدم النقل أو استصحاب القهقرى أو أصالة الثبات في اللغة ؟
نستدل على ذلك بوجوه ثلاثة:-الوجه الأوّل:- سيرة المتشرعة ، فإنه بلا إشكال حينما يسمع الرواة شيئاً من النبي صلى الله عليه وآله أو من الامام عليه السلام كان ينقل من جيل إلى جيل ، وأصحاب الامام العسكري عليه السلام حينما كانوا يسمعون الأحاديث النبوية مثل ( من كنت مولاه فها علي مولاه ) و ( إني تارك فيكم الثقلين ) وغيرهما هل كانوا يستفيدون منها ويعملون بها أو أنهم كانوا يقولون إنَّ ظاهرها ليس حجة علينا ؟ إنهم كانوا يتناقلونها ويعملون بها بلا إشكال ، وهذه سيرة متشرعية موجودة جزماً ، بل لو لم يكن العمل بها حجة فلماذا يتناقلونها ويسجّلونها فإنَّ هذا لغو !!
فإذاً سيرة المتشرعة جارية على العمل بالأحاديث الصادرة من المعصومين السابقين والحال أنَّ الفترة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الامام العسكري عليه السلام طويلة فهي حوالي مائيتي سنة واحتمال التغيّر فيها موجود ، فإذاً نفس انعقاد سيرة المتشرعة بالعمل بظواهر الأحاديث الصادرة من المعصومين السابقين يدل على أنه إذا ثبت الظهور في زماننا هذا على قضيّة معيّنة فنحن نأخذ به ونقول إنه نفس الظهور في عصر صدور النص بقرينة سيرة المتشرعة.
الدليل الثاني:- سيرة العقلاء ، بأن نقول: إنَّ العقلاء جرت سيرتهم على أن يشترون ويطالعون كتب المتقدمين ، ولا ننظر إلى خصوص المتشرعة بل ننظر إلى الأعم فنقول هناك سيرة بين جميع الناس في أنَّهم يشترون كتب المتقدمين ويطالعونها ، فمثلاً المعلقات العشر في كل زمن من الأزمنة وإلى زماننا يشتريها الأدباء ويطالعونها فإذا لم تكن هذه الظواهر الثابتة في زمننا وحجة ولم نقل بأنها عين الظواهر في الزمن السابق بل تحتمل المغايرة فلماذا نطالع المعلقات وكتب المتقدمين الأخرى فإنَّ هذا لغو وبلا فائدة ، فإذاً هذه سيرة للعقلاء موجودة جزماً فلو لم تكن هذه السيرة مرضية للشارع المقدّس للزم أن يردع عنها خوفاً من أن تتسرّب يوماً من الأيام إلى الأحاديث الشرعية.
الدليل الثالث:- إنه وردت أحاديث تحث على تسجيل الروايات ونقلها والاحتفاظ بها للأجيال اللاحقة ، وقد مدح أئمتنا عليهم السلام هؤلاء ، وقد جاء في الحديث الشريف كما روى الكشي عن حمدويه بن نصير[1] عن يعقوب بن يزيد[2] عن محمد بن أبي عمير عن جميل بن دراج قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام:- ( بشر المخبتين بالجنة بريد بن معاوية العجلي وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ومحمد بن مسلم وزرارة أربعة نجباء امناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست )[3] ، وفي حديث أبي بصير عن أبي عبد الله ( لولا زرارة ونظراؤه لظننت أن أحاديث أبي ستذهب )[4] ، إنَّ هذه الروايات تدل على الحث على تناقل الروايات والاحتفاظ بعها للأجيال اللاحقة فإذا لم تكن اصالة الثبات في اللغة - أو أصالة عدم النقل - حجة ، فحينئذٍ هذا الحث على التسجيل والاحتفاظ بالكتب والأحاديث سوف يكون لغواً وبلا فائدة ، فإذاً نفس هذا الحث يدل بالدلالة الإلتزامية على حجية الظواهر وإلا لكان الأمر بحفظها وتناقلها لغواً.
ونلفت النظر إلى نكات ثلاث:-النكتة الأولى:- إنَّ أصالة الثبات في اللغة أو استصحاب القهقرى ليس حجة إلا في هذا المورد - أما الاستصحاب المعارف هو حجة في أي مورد من الموارد - لأنه لا تشمله الروايات وإنما مدركه هو هذه الأدلة الثلاث التي ذكرناه فحجيته تختص بهذا المورد ، يعني إذا ثبت معنى في زماننا وشككنا هل هذا المعنى موجود في الزمن السالف أو لا فباستصحاب القهقرى - أو بأصالة عدم النقل - يثبت بذلك أنَّ هذا المعنى كان موجود سابقاً ، وهذا استصحاب القهقرى ليس حجة إلا في هذا المورد وأما في بقية الموارد فلا دليل على حجيته ، لأنَّ هذه الأدلة التي ذكرناها خاصة باستصحاب القهقرى في مورد اللغة أي في اثبات الظواهر والمعاني اللغوية لا أكثر.
النكتة الثانية:- إنَّ أصالة استصحاب القهقرى إنما يجري فيما إذا شككنا في أصل النقل أما إذا جزمنا بالنقل ولكن لا ندري هل حصل النقل بعد مائة سنة أو بعد مائة وخمسين سنة فلا يمكن باستصحاب القهقرى اثبات أنَّ النقل حصل في هذا الزمان دون ذلك الزمان ، فنحن نعلم جزماً هي قد نقلت بعد مائة سنة لكنه قبل خمسين سنة هل حصل النقل أو لا فباستصحاب القهقرى لا يمكن اثبات أنه لم يحصل النقل بعد خمسين سنة وإنما حصل بعد مائة سنة ، وتظهر الثمرة في أنه لو كان هناك نصوص صادرة في تلك الحقبة الزمنية - أي قبل خمسين سنة - أما النصوص الصادرة الآن بعد مائة سنة فلا ثمرة في هذا البحث.
والخلاصة:- هي أنَّ استصحاب القهقرى وعدم النقل لا يثبت أنَّ النقل قد حصل بعد المائة سنة في الزمن المتأخر ولم يحصل في الزمن المتقدّم ، والوجه في ذلك:- هو أنه كما قلنا إنَّ استصحاب القهقرى مدركه هو هذه الأمور الثلاثة - وهي سيرة المتشرعة أو سيرة العقلاء او اللغوية - والقدر المتيقن من هذه الثلاثة ما إذا شك في أصل النقل لا فيما إذا علم بالنقل وشك في تقدّمه وتأخره.