39/11/02
الموضوع:- مبحث حجية الظواهر.
رابعاً:- أن يقال: إنَّ المستدل قال عن كلمة متشابه أو كلمة متشابهات يصدق على الظاهر ونحن نقول إن كلمة متشابه أو متشابهات تستعمل يمكن أن تستعمل بمعنيين ، الأول التشابه المفهومي ، يعني نفس مفهوم اللفظ فيه معانٍ واحتمالات متعددة وهذا هو الذي قصده المستدل حيث قال المتشابه هو اللفظ الذي له معانٍ متعددة وإن كان بعضها أقرب إلى البعض الآخر ، والظاهر فيه احتمالات متعددة وإن كان المعنى الظاهر هو أقوى من غيره لكنه يبقى متشابهاً.
ونحن نقول:- صحيح أنَّ هذا متشابه ، لكن هناك معنىً آخر لكلمة ( متشابه ) وهو أن يكون المفهوم واضحاً والخفاء يكون في المصداق ، فيحتمل ارادة هذا المصداق كما يحتمل ارادة ذاك المصداق ، فالتشابه من حيث المصداق لا من حيث المعنى والمفهوم ، ومثال ذلك قوله تعالى ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ فمكلمة ( العرش ) يمكن أن يقال إنَّ معناها واضح إلا أنَّ مصداق ذلك المعنى الواضح هو متعدّد ، فتارة يراد من المصداق العرش المادي مثل عرش الملك ، وأخرى يراد منه المصداق المعنوي الكنائي ، يعني يقصد من العرش الكناية عن استقرار الأمور والعظمة والسيطرة التامة ، فالتشابه حينئذٍ يصير من ناحية المصداق لا من ناحية المعنى ، فلا يوجد أكثر من معنى لكن العرش له مصداق حسّي وله مصداق معنوي ، وهناك مثال آخر وهو قوله تعالى ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾ ، فالأمر فيه كذلك ، فإنَّ لفظ ( كرسيه ) نتمكن أن نقول هو واضح مفهوماً إلا أن المصداق ما هو فهل هو المصداق المادّي أو هو المصداق المعنوي أي الاحاطة ، فهنا التشابه يكون من حيث المصداق وليس من حيث المفهوم ، وعلى منوال ذلك قوه تعالى ﴿ يد الله فوق ايديهم ﴾ ، فالقصود من اليد أيّ مصداق فهل هي اليد الجارحة ؟ ، وبناءً على هذا سوف يصير الله تعالى مجسّماً وله يدٌ ، أو أنَّ المقصود من اليد هو المعنى المعنوي ، فإذن هنا التشابه هو تشابه صداقي وليس تشابهاً مفهومياً ، والآية الكريمة حينما قالت ﴿ منه آيات محكمات وأخر متشابهات ﴾ من الوجيه أن يكون المقصود هو المعنى الثاني ، أي التشابه من زاوية المصداق ، يعني أنَّ البعض يفسّر المصداق بالمصداق الحسّي ، فإنَّ البعض قال إنَّ الله تعالى جسم واستدلوا بهذه الآيات الكريمة فطبقوها على المصداق الحسّي الذي لازمه التجسيم ، والآية الكريمة تذمّ هذه الطريقة وتقول ﴿ منه آيات محكمات وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تسابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ﴾ وابتغاء تأويله ، يعني انتخاب تلك المصاديق غير الصحيحة التي تنتهي بهم إلى القول بالتجسيم وأنَّ الله تعالى جسم ٌكسائر الأجسام.
ومما يؤيد إرادة التشابه المصداقي أن التشابه المفهومي لا يمكن اتباعه والآية قالت ﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه ﴾ ، فإذا كان المقصود هو التشابه المفهومي فكلا المعنيين محتمل مفهوماً ، فلا يمكن اتباع المتشابه بعد فرض أنَّ معناه ومفهومه متعدّد ، فيحتمل هذا المفهوم ويحتمل ذاك المفهوم فالاتباع لا يمكن ، بخلاف ما إذا كان المقصود هو التشابه المصداقي ، فإنَّ المفهوم واحدٌ فهو يأخذ بذلك المصداق الآخر الحسّي دون المصداق المعنوي.
والخلاصة:- نقول في الجواب الرابع:- نحن إنَّ لم يجزم بما ذكرناه فلا أقل هو شيء وجيه أن يكون المقصود من التشابه في الآية الكريمة هو التشابه المصداقي وليس التشابه من حيث المفهوم ، والذي ينفعنا في اثبات عدم حجية ظواهر الكتاب الكريم هو تفسير المتشابه بالتشابه المفهومي حتى نقول يصدق على الظاهر التشابه المفهومي ، أما إذا فسّرنا التشابه بالتشابه المصداقي فالآية الكريمة تكون جنبية بشكلٍ كلّي عن قضية الظواهر وعدم حجيتها.
الدليل الثاني:- ما ورد من أنه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به ، وعلى هذا الأساس يثبت أنَّ القرآن الكريم لا يفهمه إلا من خوطب به ، والمخاطب به هم أهل البيت عليهم السلام ، والنتيجة هي أنه لا يفهمه إلا أهل البيت عليهم السلام ، وبالتالي التمسّك بظواهر الكتاب الكريم منّي ومنك ومن غيرنا من سائر الخلق غير أهل البيت ليس بحجة فإنه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به.
ويرّده:-أولاً:- إنه لابد من تفسير ( لا يفهمه إلا من خوطب به ) يعني الفهم التام بمعنى معرفة الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص وغير ذلك ، فهذه التفاصيل كلّها لا يفهما إلا أهل البيت عليهم السلام - أي من خوطب به - لا أنه لا يفهم ظواهره إلا أهل البيت عليهم السلام وليست ظواهره حجة إلا على أهل البيت عليهم السلام ، كلا فإنَّ هذا ليس مقبولاً ، وإنما المقصود هو أنَّ الفهم الكامل لا يكون إلا لمن خوطب به ، وتوجد قرينة على ذلك ، وهي أنَّ أهل البيت عليهم السلام أرجعونا إلى الكتاب الكريم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم:- ( ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ) ، وأيضاً ورد في باب الشروط وفي باب الأخبار بأنه لا يؤخذ من الأخبار بما خالف الكتاب الكريم ، يعني لابد أن نعرضها على الكتاب العزيز وهذا معنا أنَّ ظواهر الكتاب حجة علينا حتى نتمكن أن نرجع ونلاحظ أنَّ هذا الخبر يخالف الكتاب أو ليس يخالفه ، وهكذا في الشرط ، وهذا معناه أن ظواهر الكتاب لا بأس أن نتمسّك بها ، وبالتالي نفسّر الرواية التي قالت ( لا يفهم القرآن إلا من خوطب به ) بكون المقصود هو الفهم التام وبالدرجة العليا ، لا أنَّ الظواهر أيضاً لا يفهمها إلا من خوطب به وإلا فهذا يتنافى مع ما أشرنا إليه من القرائن.
ثانياً:- إنَّ التمسك بالظواهر قضية جرت عليها السيرة فإذا كان الاسلام ينهى عن التمّسك بظواهر الكتاب الكريم والمفروض أن التمسّك بها قضية جرت عليها السيرة المؤكدة فيلزم أن يكون الردع عنها قوياً بقوة السيرة ولا يكفي الردع البسيط والمختصر ، ونحن إذا رجعنا إلى النصوص الشرعية لا نجد ردعاً عن التمسّك بظواهر الكتاب الكريم سوى رواية واحد يتحدث فيها الامام الباقر عليه السلام مع قتادة ، ونصّها:- ( .... ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به )[1] ، ولعله توجد رواية ثانية وثالثة ، ولكن هذا لا يكفي في الردع فإنَّ هذه قضية مهمة جداً والسيرة قد انعقدت عليها بشكلٍ قوي فيلزم أن يكون الردع بنصوصٍ كثيرة كما في القياس ، فكيف أنه جاءت نصوص رادعة كثيرة عن العمل بالقياس فهنا أيضا يلزم أن يكون الأمر كذلك.
ثالثاً:- إنَّ الأئمة عليهم السلام وبّخونا على عدم الرجوع إلى القرآن الكريم والأخذ بظواهره ، من قبيل رواية عبد الأعلى آل سام:- ( عثرت فانقطع ظفري فجعلت عليه مرارة فكيف أتوضأ ؟ فقال عليه السلام:- امسح عليه ، هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله " ما جعل عليكم في الدين من حرج " )[2] ، فالإمام عليه السلام يريد أن يقول لعبد الأعلى إنَّ هذا واضح وهو يعرف من كتاب الله تعالى فلماذا تأتي وتسألني عنه ؟!!