39/10/19
الموضوع:- مبحث حجية الظواهر.
التفصيل الرابع:- هو التفصيل حالة اكتناف الظهور بما هو مرفوض وعدمه.
توضيح ذلك:- قد تأتينا رواية تشتمل على دمل متعددة وكل جملة ظاهرة في معنى والمعاني غير متنافية إلا أنَّ بعض الجمل لا يمكن الالتزام بظهورها لأنها تدل على مضمون مرفوض لإجماع الفقهاء او لمخالفته لضرورة المذهب أو غير ذلك ، هذه الجملة التي ظهورها مرفوض لا إشكال في أنَّ ظهورها يكون ساقطاً على الحجية ، فمثًلا هي قد دلت على الوجوب والوجوب لا يمكن الالتزام به فتكون ساقطة عن الحجية ، إنما الكلام في بقية الجمل فهل نأخذ بها أو نطبق قاعدة ( قد يؤخذ الجار بجرم الجار ) ، يعني مادام تلك الجملة رفضت فهذ ترفض ايضاً مادام اكتنفت بما هو مرفوض ، ونمثل لذلك بمثالين:-
المثال الأوّل:- صحيحة أبي بصير:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:- الكذبة تنقض الوضوء وتفطر الصائم ، قلت:- هلكنا ، قال:- ليس حيث تذهب إنما ذلك الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة عليهم السلام )[1] ، هنا اتضح أنَّ الكذب من المفطرات ولكن إذا كان هو الكذب الخاص وهو الكذب على الله ورسوله والأئمة ولذلك الفقهاء يفتون طبعاً لذلك ولكن هذه الرواية اكتنفها شيء وهي أنَّ الكذب من نواقض الوضوء ، يعني إذا كذب شخص على الله أو على رسوله انتقض وضوئه ، وهل يلتزم بذلك فقيه ؟ كلا لم يلتزم فقيه بذلك - ولا تقل لنلتزم بذلك ولكن نقول دعنا نقول لا نلتزم فإننا لم نسمع فقيهاً يلتزم بذلك وافرض أنه لا يلتزم به أحد - ، حينئذٍ هل نفكك بين ظهورات الجمل فنقول إنَّ الجملة الأولى لا نأخذ بظهورها بخلاف الجملة الثانية ، فجملة ( الكذبة تنقض الوضوء ) وتأخذ بفقرة ( وتفطّر الصائم ) ، فهل التفكيك بين الفقرات من حيث حجية الظهور مقبول أو لا ؟
المثال الثاني:- موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة ؟ قال:- إذا أتي عليه ثلاث عشرة سنة فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم والجارية مثل ذلك إن أتي لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى القلم )[2] ، فإنه يوجد كلام في أنَّ الصبية بكم تبلغ ؟ المعروف بيننا هو بإكمال تسع سنين والدخول في العاشرة ، ويوجد رأي في المقابل يقول ثلاث عشرة سنة ومن أحد مستنداته هو هذه الموثقة حيث دلت على أنه إذا صار عمرها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فالمدار على أحد هذين الأمرين فحينئذٍ تجب عليها الصلاة وجرى عليها القلم ، وهذا لا مشكلة فيه.
إنما المشكلة هي أنَّ الرواية ذكرت أنَّ الغلام إذا صار عمره ثلاث عشرة سنة أيضا يصير بالغاً وتجب عليه الصلاة وهذا لا يلتزم به ، فإنه قد اتفقت الكلمة على أنَّ بلوغ الغلام يكون في سن الخامسة عشرة ، فحتى لو التزم في البنت بلوغها في سنّ الثالثة عشر لكن في الولد لا يلتزم بذلك ، وحينئذٍ سوف تبتلى هذه الرواية بهذه المشكلة وهي أنها اقترنت بما لا يمكن الالتزام - وهو أنَّ الغلام يبلغ بإكمال ثلاث عشرة سنة - ، والكلام هنا فهل هذه الرواية ترفض بكلتا فقرتيها ، يعني أنَّ ظهور الفقرة الثانية الوارد في الجارية أيضاً نرفضه ونرفع اليد عنه من باب أنَّ الفقرة الأولى ظهورها مرفوض أو أننا نفكك بين الفقرات فنقول الفقرة الأولى لم يلتزم بها الأصحاب فنرفع اليد عنها أما الفقرة الثانية فنأخذ بها ولا بأس؟
إذن هذا بحث نافع وقد يفصّل بهذا الشكل ، ومن الواضح أنَّ هذا التفصيل ليس مذكوراً في علم الأصول ولكن كان من المناسب أن يذكر كما أشرنا إليه.
أما من يبني على التفكيك ، فالوجه في ذلك واضح ، ولعل هذا هو المعروف بين الأعلام ، وتوجيهه إن نقول:- إنَّ هذه ظهورات متعددة وكل واحد منها حجة إذا لم يكن هناك ما يمنع من الحجية وكون أحد الظهورات يوجد مانع فيه لا يكون موجباً لرفع اليد عن بقية الجمل ، وهذا نظير عدّة روايات فتوجد رواية فيها مشكلة فتسقط عن الاعتبار أما الروايات البقيّة لماذا تسقط ؟!! ، فإنَّ هذه الفقرات بمثابة الروايات المتعددة والحجج المتعددة والأدلة المتعددة فسقوط واحدٍ عن الحجية لا يوجب رفع اليد عن البقيّة ، وهذا الرأي هو المشهور.
وقد ذكر الشيخ الطوسي[3] هذا المطلب الذي أشرنا إليه - وهو أن رفع اليد عن فقرة لموجبٍ لا يستلزم رفع اليد عن الكل - ، وكذلك السيد الحكيم(قده)[4] ، وهكذا السيد الخوئي(قده)[5] في كلماته المكررة ، وهكذا بقية الأعلام هم على هذا المنهج ، نعم وجدت الشيخ الهمداني في مصباحه[6] يتوقف في العمل ، وهذا هو المناسب ، والوجه في ذلك هو أنَّ مدرك حجية الظهور هو سيرة العقلاء ، والقدر المتيقن من السيرة هو العمل بالظهور فيما إذا لم يقترن به ما هو مرفوض ، أما إذا اقترن به ما هو مرفوض فهل يعمل العقلاء بذلك الظهور أو لا ؟ إنه قد يتأمل في ذلك فإن عملهم ليس بواضح والعرب ببابك ، فلو فرض أنه جاء شخص ونقل خبرين أو ثلاثة وكان أحدها ليس منضبطاً فهل تأخذ بالخبرين الآخرين ؟ إنك قد تتوقف في الأخذ بهما ، فإذن لا يمكن أن نجزم بأنَّ العقلاء يعملون بهذا ، فإذا جزمت بأنَّ سيرة العقلاء على أنهم يعملون بها فبها ونعمت ، وأما إذا توقفنا في ذلك وتردّدنا فلا يمكن حينئذٍ العمل بالرواية ، وهذه مسألة مهمة يلزم أن تتخذ موقفاً تجاهها ، لأنه كثيراً ما نبتلي في الروايات بهذه القضية.