الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/10/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث حجية الظواهر.

التفصيل الثالث:- الظهور المستفاد من الكلام مباشرة أو من خلال تجميع القرائن ، فتارة الظهور يستفاد من الكلام مباشرة من دون أن نأتي بقرينة من هنا وهناك خارج الألفاظ بل الألفاظ نفسها تدل على هذا المطلب فهنا الظهور يكون حجة ، أخرى يكون حاصلاً من تجميع بعض القرائن وبعض القرائن ربما تكون خارجية ليست مذكورة في الكلام فهنا لا يكون حجة.

وهذا التفصيل ليس مطروحاً في الكلمات ولكن من يقرأ الروايات قد يستفيد أحياناً نحوين من هذا الظهور ، ونمثّل بمثال وهو صحيحة أبي ولّاد المذكورة في المكاسب في اثبات ضمان الغاصب ، ونصّها:- ( ..... فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته )[1] ، إنه هنا يوجد ظهور مستفاد من الكلام من دون إدخال قرائن في الحساب وهو أنه لو خالف المستأجر للبغل وهلك البغل فيكون ضامناً فهذا المقدار هو صريح الرواية ولا يحتاج إلى طلب القرينة على ذلك ، فهذا الظهور يكون حجة ولا كلام فيه ، ولكن يوجد ظهور ثانٍ هو محل كلامنا فيه وهو أنه سلّمنا أنه يخسر قيمة بغل لأنَّ البغل من القيميات ولكن أي يوم فهل هو يوم المخالفة أو يوم التلف وربما تختلف القيمتان ، كما هو الحال في السيارات الآن فقد يكون سعر السيارة في يوم بكذا مقدار ولكن بعد شهر أو أكثر قد يكون أزيد أو أقل وهذا شيء ممكن ، والكلام هو أنَّ قيمة أي يوم يضمنها هذا المستأجر ؟

هناك من قال:- إنَّ الرواية تدل على أنَّ المدار على قيمة يوم المخالفة - أي يوم الغصب - لأنه من حين المخالفة صار غاصباً.

ويوجد قول ثانٍ:- وهو أنَّ المدار على ضمان قيمة يوم التلف لا يوم المخالفة.

وكلا الرأيين يستندان إلى هذه الصحيحة ، فبعضٌ استفاد منها أنَّها تدل على أنَّ المخالف الغاصب يكون ضامناً بقيمة يوم المخالفة ، وهذا ما يذكره بعض الفقهاء في رسائلهم العملية فيذكرون إنه إذا قبض شخص مال الغير من دون رضاه كأن غصب بيته فهناك من يقول إنَّ المدار في الضمان على يوم الغصب ومستنده صحيحة أبي ولاد ، وهناك رأي يقول إنَّ المدار على يوم التلف.

وكيف نستفيد على أنَّ المدار على قيمة يوم المخالفة ؟

قيل هكذا:- إنَّ كلمة ( يوم ) هي ظرف والظرف يحتاج إلى متعلق يتعلق به والذي يتعلق به هو كلمة ( قيمة ) ، وهو أقرب في مقابل احتمال ثانٍ وهو أنه متعلّق بـ ( يلزمك ) لأنَّ الامام عليه السلام قال ( نعم قيمة بغل ) يعني يلزمك قيمة بغل ، لأنَّ الموجود قبلها ( أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ، قال: نعم ) فـ ( يلزمك ) المقدّرة هي التي يتعلّق بها ( يوم خالفت ) ، يعني ( يلزمك يوم خالفت ) ، فالمقصود أنه يوجد احتمالان الاحتمال الأوّل أنه متعلّق بالقيمة يعني يلزمك قيمة يوم الخالفة ، ويوم المخالفة هو يوم الغصب فنلاحظ يوم الغصب فقيمة البغل كم كان مقدارها فيكون المدار عليها ، وهذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء ، والاحتمال الثاني هو أن نقول إنَّ يوم المخالفة ليس متعلقاً بكلمة ( قيمة ) وإنما هو متعلّق بكلمة ( يلزمك ) المقدّرة يعني ( يلزمك يوم المخالفة ) ولكن ماذا يلزمك يوم المخالفة ؟ إنها قيمة بغل ، ولكن قيمة أي يوم ؟ إنَّ هذا مسكوت عنه وإنما الرواية فقط تبيّن أنَّ يوم المخالفة صرت ضامناً أما أنك تضمن يوم المخالفة قيمة يوم المخالفة أو قيمة يوم التلف أو أعلى القيم فهذا مسكوت عنه ، والدليل على ذلك هو أنه توجد عدة قرائن على أنَّه متعلّق بـ ( يلزمك ):-

القرينة الأولى:- إنَّ السؤال كان عن أصل الضمان ولم يكن عن تحديد قيمة يوم الضمان وأنَّ المدار على قيمة أيّ يوم ، وإنما هو سأل وقال لماذا أضمن والحال أنه لو تلف فسوف أكون ضامناً ، فعلى هذا الأساس الامام عليه السلام قال له نعم تكون ضامناً ، فأقصى مأ اثبتته الرواية هو الضمان أما ضمان أيّ يوم فهي ساكتة عنه.

القرينة الثانية:- إنَّ فترة السفر على البغل كانت خمسة عشر يوماً ، وعادة لا تتفاوت القيمة في مثل هذه الفترة القصيرة ، يعني أنَّ البغل ليس كمثل الدولار أو التومان الذي يحصل التغير في قيمته خلال فتراتٍ قصيرة ، وخصوصاً في ذلك الزمان فإنه عادةً لا تختلف القيمة خصوصاً في المدّة القصيرة كخمسة عشر يوماً ، فاحتمال أنَّ الامام عليه السلام يريد أن يقول له إنَّ المدار على قيمة يوم خالفت لا يوم التلف ولا يوم الاستئجار فهذا لا يريده لأنه عادةً لا تختلف القيمة بلحاظ هذه الأيام.

القرينة الثالثة:- إنَّ مقتضى العدالة العقلائية - أو الاجتماعية - أنَّ يصير المدار لا على يوم المخالفة ، فإنه لو دفع له قيمة يوم المخالفة بينما هذا اليوم الذي يريد ارجاع القيمة له فيه يكون أكثر فلا تحصل العدالة ، فإذا أردنا العدالة فلابد أن يكون المدار على قيمة يوم الرد - يعني يوم الأداء - ، لأنَّ العدالة تحصل فيما إذا لاحظنا قيمة يوم الرد أما ملاحظة يوم المخالفة فلا تحصل به العدالة.

هذه ثلاث قرائن استند إليها أصحاب هذا الرأي الثاني الذين يقولون إنَّ يوم الخالفة متعلق بـ ( يلزمك ) وبالتالي الرواية تقول يلزمك الضمان يوم المخالفة ، فأنت حينما خالفت فقد وجب عليك الضمان ولكن ضمان أي يوم فهل هو يوم المخالفة أو يوم التلف أو يوم الأداء أو أعلى القيم ؟ إنَّ هذا مسكوت عنه.

هذا مثال أتينا به للظهور الذي استند إلى تجميع القرائن وقلنا إذا كان الظهور مستنداً إلى نفس الكلام من دون جمع قرائن فهذا لا إشكال فيه ، مثل الظهور في أصل الضمان ، فإنَّ الرواية تدل عليه بوضوح ، أما كون الضمان بلحاظ هذا اليوم أو ذلك فهذا قد استند إلى تجميع القرائن فهل مثل هذا الظهور حجة أو لا ؟

والجواب:- لا يبعد أن نفصّل ونقول:- إذا كانت القرينة عرفية مثل القرينة الأولى التي ذكرت في القرائن الثلاث وهي أنَّ السؤال كان عن أصل الضمان ولم يكن عن تحديد قيمة يوم الضمان فهذه قرينة ليست خارجة عن النص وإنما هي قرينة عرفية من داخل النص ، فبالتالي تكون الاستفادة منها هي استفادة من النص وليست من خارجه فتكون مقبولة ، وأما القرينة الثانية والثالثة فهي من خارج النص ، لأنه في القرينة الثانية قيل إنه عادةً القيمة لا تختلف في الخمسة عشر يوماً حتى يحتاج الامام عليه السلام إلى أن يحدد كون المدار على قيمة أي يوم ، وهكذا القرينة الثالثة وهي أنَّ مقتضى العدالة أنه لا تلحظ قيمة يوم المخالفة التي هي يوم الغصب وإنما يوم الأداء ، وهذه القرينة ليست من النص وإنما هي قرينة عقلائية - إن صحّ التعبير - فالاستناد إلى مثل هذه القرائن لا عبرة به ولا يكون حجة إلا إذا أورثت للفقيه الاطمئنان فيصير المورد من باب حجية الاطمئنان لا من باب حجية الظهور ، ونحن نتكلّم عن حجية الظهور لا عن حجية الاطمئنان ، فلا يحصل خلطٌ بين الموردين.


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج19، ص120، ابواب الاجارة، ب17، ح1، ط آل البيت.