39/10/11
الموضوع:- مبحث حجية الظواهر.
الأمر الثاني:- ربما يقال إنَّ سيرة العقلاء تختلف عن سيرة الشارع ، فإنَّ العقلاء عادةً يذكرون المخصّصات والقيود بشكل متصل مع الكلام لا أنهم يذكرونها بشكلٍ منفصل ، فإذا أردت أن أقول لك ( أكرم كل مؤمن ) فلو كانت عندي قيود كأن يكون هذا المؤمن سخياً مثلاً وسيرته جيدة وغير ذلك فأنا سوف أذكر القيود مع الكلام لا أني أذكر الكلام الآن والقيود أذكرها بها بعد شهر مثلاً فإنَّ العقلاء لا توجد عندهم هكذا سيرة ، فالقيود والمخصصات يأتون بها دائماً بشكلٍ متصل ، بينما سيرة الشرع المقدّس جرت على الخلاف ، فالإمام الأوّل يذكر كلاماً وقد يأتي المخصّص والمقيّد من الإمام العاشر ، وما أكثر المقيدات والمخصّصات المنفصلة ، وهذه ظاهرة بارزة في طريقة الشرع المقدّس ، أما ما هي نكتتها ولماذا لم يأت الشارع بالقيود متصلة ؟ إنَّ تلك قضية ثانية ، ولكني كفقيه لا يهمني ما هي الأسباب بل الذي يهمني واقع الحال ، فواقع الحال أنَّ الشرع المقدّس يأتي بالعموم في الزمن المتقدّم ويأتي بالمخصّص والمقيّد في الزمن المتأخر وهذه ظاهرة بارزة عنده ، ولذلك قيل ( ما من عام إلا وقد خصَّ ) أي بمخصّصاتٍ منفصلة ، فأنت لاحظ ﴿ أحل الله البيع ﴾ فإنه عام ورد في القرآن الكريم ولكن كم له من مقيّدات ، كبيع الصبي لم يحل ، وبيع المجنون لم يحل ، والبيع الفاقد للشروط لم يحل ..... وهكذا توجد مقيدات أخرى كثيرة ليست مذكورة مع ﴿ أحلّ الله البيع ﴾.
فإذا عرفنا هذا فحينئذٍ نقول:- إنه لا يمكن أن نثبت حجية الظواهر في كلام الشارع قياساً على السيرة العقلائية ، فإنَّ العقلاء يأتون بالمخصّصات متصلة لا منفصلة ، وهكذا المقيدات ، فمثل متكلم من هذا القبيل نعم جرت السيرة على أن يُعمل بظاهر كلامه ، أما إذا كان الشخص يأتي بالمقيّدات منفصلةً فلا توجد سيرة على الأخذ بظواهر كلام مثله حتى نتمسّك بها لإثبات حجية ظواهر كلامه.والجواب:- إنَّ ما ذكر شيء وجيه ، فنحن نسلّم أنَّ سيرة الشرع تغاير سيرة العقلاء ، ولكن نقول: لو كان الشرع القدّس لا يرتضي العمل بظواهر كلامه[1] لكان من المناسب أن ينبه العقلاء على ذلك ، إذ العقلاء قد يغفلون ويتسامحون فيطبقون سيرتهم على كلام الشارع ، فمن المناسب له أن ينبههم ويقول لهم ( إنَّ سيرتكم العقلائية على العمل بالظواهر لا تغفلوا وتطبقوها على ظواهر كلامي ) لأنَّ العقلاء يغفلون ، وأنا وأنت من هذا القبيل أيضاً ، فنحن نعمل بظواهر كلام الشارع ، ولكن لماذا نعمل بظواهر كلام الشارع أليس الشارع له طريقته الخاصة ؟ إنَّ سيرتنا العقلائية على العمل بالظواهر تجعلنا نسرّيها حتى إلى كلام الشارع ونطبّقها عليه غفلةً ، فمادمنا قد نطبق هذه السيرة على كلام الشارع غفلةً فمن المناسب للشارع أن ينبّه على ذلك ، وعدم تنبيهه يدل على أنه اضٍ بتطبيق هذه السيرة على ظواهر كلامه ، فإذن هذا الاشكال يمكن دفعه.
الأمر الثالث:- أن يقال: إنَّ العقلاء يوجد لهم مجالان للعمل بالظواهر ، مجال العمل بالظواهر في القضايا التكوينية ، ومجال التشريع ، والفرق بينهما هو أنَّ أهداف الإنسان على قسمين ، فمرة أهدافه ترجع إلى نفسه ، فهي ترجع إلى أكله وشربه ونومه وعائلته وسفره وحلّه وترحاله فهذه يصطلح عليها بالأهداف الشخيصة أو التكوينية ، وهناك مجال آخر وهو مجال آمر ومأمور مولىً وعند أب وابن ، فهذه أوامر وفيها امتثال وهذا يصطلح عليه بالمجال التشريعي[2] .
وبعد اتضاح هذا المصطلح نقول:- إنَّ العقلاء إما أن يعملوا بالظهور في مجال أغراضهم التكوينية أو ننظر إلى عملهم بالظواهر في مجال الأغراض التشريعية ، فإذا نظرنا إلى المجال الأوّل نقول نسلّم هم يعتمدون على الظواهر ولكن الشارع ليس من اللازم أن يردع ولا أن يرضى لأنَّ هذه قضية خاصة بالعقلاء في مجالهم الخاص فهم في أكلهم وشربهم ونومهم يعتمدون على ظواهر الكلام وهذه لا ترتبط بالشارع ولا تؤثر عليه حتى نقول أنه يرتضيها أو لا يرتضيها وإذا لم يرتضها فيلزم أن ينهى عنها ، فإنَّ هذه قضية خاصة بالعقلاء وهي لا تهمّه ، وأما إذا نظرنا إلى سيرتهم في مجال الأهداف التشريعية - يعني كآمر ومأمور - فنقول صحيح أنَّ العقلاء قد جعلوا الظواهر حجة فيما بينهم ولكن كلّ مولىً له الحق في دائرة نفسه فقط وفقط أن يجعل الحجة هذا لا ذاك ، أما أن يجعل الحجة في حق غيره - أي المولى الآخر – هي كذا فليس له الحق في ذلك ، فأنا أقول لولدي الحجة بيني وبينك هو ظواهر الكلام حجة مثلاً ، وربما أقول له حتى الاحتمال حجة بيني وبينك ، فإذا احتملت أني عطشان أو جوعان أو أريد الاتيان بالحقيبة فيلزمك أن تسير على طبق الاحتمال فإنَّ هذا حق لي ، أما أن أجعل ذلك حجة في حق غيري من الموالي فهذا لا معنى له ، بل كل مولىً في دائرته الخاصة يجعل الحجة هذا دون ذاك.فإذا صار هذا المطلب واضحاً فحينئذٍ نقول:- لا يمكن أن نحكم بأنَّ الظواهر حجة بالنسبة إلى الشارع ، لأن السيرة التي ننظر إليها إما هي سيرة العقلاء في أغراضهم التكوينية وهي كما قلنا هي خاصة بهم ولا تؤثر على الشارع شيئاً ، أو ننظر إلى سيرتهم في الأغراض التشريعية حيث جعلوا الظواهر حجة وقد قلنا إنَّ كل مولىً له الحق في أن يجعل الشيء الفلاني حجة لنفسه بينه وبين عبيده أما أن يجعل الظواهر حجة في حق غيره من الموالي - في حق الشرع - فليس من حق العقلاء ذلك.فإذن سيرة العقلاء لا يمكن التمسّك بها لإثبات حجية ظواهر كلام الشارع ، لأنَّ هذه السيرة العقلائية في مجال الأغراض التكوينية هي لا تؤثر على الشارع ولا ترتبط به ، وفي مجال الأغراض التشريعية قلنا إنَّ كل عاقل من حقه أن يجعل الحجة كذا أو كذا لكن في دائرته في دائرة غيره من الموالي ، فلا يمكن للعقلاء أن يجعلوا الظواهر حجة في حق الشرع ، لأنَّ كل مولى هو في دائرته يجعل الحجة ما يراه مناسباً.وجوابه:- نقول هذا صحيح ولكن العقلاء قد يغفلون عمّا هو حجة بينهم فيجعلونه حجة في كلام الشارع ويتمسّكون به في حق الشارع غفلةً منهم واشتباهاً وخطأً كالظواهر ، ولكن من المناسب للشارع إذا لم يرتض هذه السيرة أن يردع عنها ، فعدم تنبيهه بعد وضوح أنَّ العقلاء قد يشتبهون في هذا المجال وسكوته يدل على أنه يمضي العمل بالظواهر في أحكامه أيضاً.
الاشكال الثالث:- إنَّ العقلاء أحياناً حينما يتمسّكون بالظواهر قد يُعمِلون بعض العنايات والأمور الأخرى ، من قبيل ما يعبّر عنه بمناسبات الحكم والموضوع أو فكرة تنقيح المناط - يعني أنهم يلغون خصوصية المورد - وحينئذٍ نقول إنَّ هذا نحو من إعمال الرأي ، لأنه اعتماد على مناسبات الحكم والموضوع وعلى تنقيح المناط وغير ذلك ، وقد نهينا عن إعمال الرأي ، فبالتالي الظواهر لا يجوز التمسّك بها مادمنا نُعمِل هذه الأمور ، فإذن هذا مشمول لما دلّ على عدم جواز إعمال الرأي ، فإذن يوجد ردع ، وهذه السيرة على العمل بالظواهر لا يمكن التمسّك بها في حق الشارع لأنها تشتمل على إعمال الرأي والاستحسان وهذا مردوع عنه شرعاً ، فإذن قد ردعنا عن مثل هذه السيرة مادامت تشتمل على إعمال فكرة تنقيح المناط وغيرها التي هي من مصاديق إعمال الرأي.
والجواب:- مادامت هذه الأمور داخلة في دائرة الظهور بحيث يقال هو عمل بظاهر الكلام ولم يتجاوز عن دائرة العمل بالظهور فلا يصدق آنذاك عنوان إعمال الرأي والاستحسان ، فصحيح أنَّ الامام قال ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ) فهو يتكلم مع زرارة ولكن نحن نتعدّى من زرارة إلى غيره بإلغاء الخصوصية ، وكذلك نلغي خصوصية الثوب ونطبّقه على العباءة وغير ذلك ، فنلغي هاتين الخصوصيتين ، وهذا في الحقيقة يمكن أن نقول هو بالتالي عمل في دائرة الظهور وليس تجازواً عن دائرة الظهور ومادام يصدق عليه أنه عمل بالظهور فلا يصدق عليه آنذاك أنه إعمال للرأي والاستحسان وغير ذلك فإنه توجد مقابلة بين الظهور وبين إعمال الاستحسان والرأي ، فمادام سلّمت أنَّ هذا عمل بالظهور فلا يصدق عليه آنذاك أنه عمل بالاستحسان أو الرأي أو ما شاكل ذلك.