الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/08/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- كيف نثبت امضاء السيرة - مبحث الظن.

والجواب:- إنَّ ما أفيد شيء وجيه ، ولكن هناك ملاحظة ، وهي أنَّ الناس بسبب عادتهم المستحكمة وهي أنهم يأخذون بخبر الثقة في اثبات أحكام انفسهم ربما في يوم من الأيام يسحبونها ولو من حيث لا يشعرون إلى أحكام الغير - أعني إلى أحكام الشارع - وهذه قضية واردة، بل هكذا يفعلون جزماً ، يعني أنا وأنت قد نطبّق هذه السيرة الجارية في أحكام أنفسنا على أحكام الشارع غفلة عن ذلك ، فمن باب أنَّ هذه العادة قد استحكمت عنده فكأنه يعتقد أنَّ الشارع أيضاً هو معنا ، فهو يتصوّر هكذا ولو بنحو التصوّر الخاطئ ، فإذن يجدر بالشارع من باب الحذر المسبق عن تطبيق هذه السيرة في أحكام نفسه أن يردع ، فإذا سكت دلّ سكوته على أنه يرضى بتطبيق هذه السيرة في أحكام نفسه ، وهذه قضية عقلائية ، فإني متى ما تخوّفت في يوم من الأيام أنَّ فلاناً أو فلاناً من أهل بيتي سوف يتصرفون في بعض أموري الخاصة ، كما لو كانت عندي أوراق ودفاتر فهم ليس لهم الحق في التصرّف فيها ، ولو نبّهوا لقالوا نعم لا يجوز لنا التصرّف بها ، ولكني مادمت احتمل أنه في يوم من الأيام قد يأتي بعض أفراد العائلة إلى أوراقي ويتصرّف بها ولو بإتلافها للتخلّص منها لأنها كثيرة ومبعثرة ، فهو يعتقد أنه يفعل شيئاً حسناً والحال أنَّ هذه الأوراق فيها خط الشيخ النائيني(قده) أو خط الشيخ الأصفهاني(قده) مثلاً ، فهم لا يعلمون بهذه الأمور ، فأنا من باب الحذر المسبق لابد أردع عن هذا الشيء وأقول لهم لا تفعلوا هذا الشيء ، فالشارع هنا أيضاً من باب الحذر المسبق لابد وأن ينهى ويردع فإذا لم يردع والحال أنَّ مقتضى سيرتهم ومرتكزاتهم أنهم في يوم من الأيام يطبقونها على أحكام الشرع فإذا لم يردع فذلك يدلّ على أنه يرضى بتطبيق تلك السيرة على أحكام نفسه ، بل حتى بالنسبة إلى الأوراق إذا رأينا أنَّ الوالد لا يقول لنا شيئاً فنستفيد من ذلك أنه يرضى.

فإذن هذا الاشكال الفنّي يُحلُّ بهذه الطريقة ، والكثير من السير يدفع فيها هذا الاشكال الفنّي بهذا البيان ، لأنَّ هذا الاشكال يأتي في باب الظاهر أيضاً وفي أمور أخرى ودفعة بما يكون أشرنا إليه.

بيان آخر للاكتفاء بعدم احراز الردع:- ذكرنا سابقاً أنَّ المدار في ثبوت امضاء السيرة هل على احراز عدم الردع أو يكفينا عدم احراز الردع ؟ ، وقد ذكرنا أنَّ الشيخ الأصفهاني(قده) ذكر أنه يكفي عدم احراز الردع ببيان قد تقدّم ، والآن نريد أن نذكر بياناً آخر يصبّ في صالح الشيخ الأصفهاني(قده) ، يعني أيضاً هذا دليل ثانٍ بأنه يكفي عدم احراز الردع ولا يلزم احراز عدم الردع ، فإذن يوجد بيانان.

وهذا البيان هو ما ذكره بعض الأعلام وحاصله:- إنَّ السيرة العقلائية على نحوين ، فتارةً تكون سيرة ناشئة من تقاليد وأعراف اجتماعية من قبيل الضيف حينما يأتينا نذبح له ذبيحة أو نستقبله بالأهازيج أو غير ذلك فهذه ناشئة من تقاليد أو أعراف وربما تختلف المجتمعات من هذه الناحية ، فنحن حينما يأتي شخص من السفر فاحترامنا واستقبالنا له يكون مثلاً بالتعانق فيما بيننا ، بينما في بعض الأعراف لعلّه توجد عندهم تقاليد أخرى كأن يضرب بعضم أنفه بأنف الآخر ، فالسيرة تارة تكون ناشئة من تقاليد وأعراف ، ونحن نسمّيها سيرة عقلاء في مقابل سيرة المتشرعة بما هم متشرعة فهي بهذا الاعتبار سميناها سيرة عقلاء ، وأخرى تكون السيرة ناشئة من ارتكازات عقلائية من قضاء الفطرة وليس ناشئاً من المجتمع الضيّق والبيئة الضيقة ، ولعلّ من هذا القبيل العمل بالظهور والعمل بخبر الثقة إمّا مطلقاً أو إذا أفاد الوثوق ، فهذا ليس ناشئاً من بيئة وأعراف وتقاليد ضيقة وإنما نحن نعمل بالظهور منذ صغر سنّنا من دون أن يعلّمنا المجتمع والمحيط الضيّق ذلك ، وكيف نعمل بالظهور ؟ إنه حينما اسمع بكلامك فسوف آخذ به وهذا ناشئ من مرتكزات عقلائية وفطرة وليس نشئاً من تقاليد وأعراف اجتماعية.

فإذا عرفنا التمييز بين هذين النحوين فحينئذٍ نقول:- إذا كانت السيرة من النحو الأوّل فهنا نسلّم لا تكون حجة إلا إذا فرض احراز الامضاء وعدم الردع ولا يكفينا عدم احراز الردع ، وأما إذا كانت من القبيل الثاني فمثل هذه السيرة يكون الجميع ملزماً بها بما في ذلك الشارع الأقدس ، ولذلك نطبقها في حقه ونقول إنَّ ظاهر كلامك كان كذا ونلزمه بذلك ، وعلى هذا الأساس يلزم تطبيقها مادمنا لم نحرز ردع الشارع عنها ، إذ المفروض أنه ملزمٌ بتطبيقها ، نعم من حقّ الشارع أن يردع عنها ، فإذا أحرزنا الردع فآنذاك لا تكون حجة ، أما إذا لم نحرز تردع فهي حجة لما أشرنا إليه[1] .

ولعلّ هذا المطلب يتطابق مع الوجدان ، فنحن نحكم بحجبة الظواهر ولا يكفينا احتمال ردع الشارع بل لابد وأن نحرز أنه قد ردع ، وهذه قضية نشعر بأنها عقلائية ، يعني نحن نشعر في أنفسنا بذلك ، مثل الظهور ، فإنَّ الظهور بالخصوص هو من هذا القبيل ، فنحن نشعر أنَّ احتمال الردع لا يكفي بل نحتاج إلى الجزم بالردع ، وإلا لو قال شخص يحتمل الردع عن هذا فلا نقبل منه وإنما نحتاج إلى احراز عدم الردع ونبقى نسير على هذه السيرة إلى أن نحرز عدم الردع.

ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الخراساني(قده) فإنه قال:- ( ضرورة أنَّ ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الاطاعة والعصية وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة وعد استحقاقها مع الموافقة ....... يكون عقلاً في الشرع متبعاً ما لم ينهض دليل على المنع من اتباعه في الشرعيات )[2] ، فإذن يمكن أن يكون مقصوده هو نفس ما أفيد وأنَّ ما جرت عليه سيرة العقلاء التي هي بسبب مرتكزاتهم كما في الظهور والعمل بخبر الثقة يكون متّبعاً إلا أن نحرز الردع عنه . هكذا قد يُفصَّل.

إذن بالتالي هذا البيان يختلف عن البيان الأول فإنَّ البيان الأوّل يقول إنه مطلقاً يكفي عدم احراز الدرع ، بينما هذا البيان يفصَّل بين ما إذا كانت السيرة ناشئة من الأعراف والتقاليد فهنا نحتاج إلى احراز الامضاء ولا يكفينا عدم احراز الردع ، أما إذا كانت السيرة من القبيل الثاني فحينئذٍ يكفينا عدم احراز الردع ولا نحتاج إلى احراز الامضاء واحراز عدم الردع ، فإذن هذا البيان يفصّل بين هذين النحوين من السيرة.

[1] من أن مثل هذه السيرة هي نافذة المفعول حتى في حق الشارع لأنَّ هذا شيء تقضي به الفطرة والمرتكزات العقلائية فلو كان الشارع لا يرضاها فيحتاج إلى ردع فإذا أحرزنا الردع فحينئذٍ تزول الحجية عن هذه السيرة أما إذا لم نحرز الردع فحينئذٍ نطبق هذه السيرة ونحكم بحجيتها.
[2] كفاية الصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص340.