الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/08/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

والمناسب بعد بطلان الوجهين السابقين لإثبات أن السيرة الموجودة في زماننا هي ثابتة في زمن المعصوم التمسّك لذلك بوجه آخر ذلك بأن يقال:- إنه يلزم بعض اللوازم التي يصعب الالتزام بها ، فمثلاً في مسألة صحة القراءة إذا فرض أنَّ العادة في زمن المعصوم لم تكن كما هي عندنا اليوم ، فلو تقدّم شخص لسانه لسان عربي فنحن نصلي خلفه مادام عادلاً ولا نسأله عن قراءته ، فإذا لم تكن العادة هكذا في زمن المعصوم فمعنى ذلك أنَّ كل شخص يتقدّم للصلاة لابد وأن يُسأل عن القراءة ، وبالتالي تصير هذه الظاهرة متكررة وليست منحصرة في زاوية فإنَّ الابتلاء بصلاة الجماعة كبير ، فيلزم أن تكون هذه الظاهرة شائعة ، وحينئذٍ تستحق أن تسجّل وتُنقل ولابد أن تشير إليها الروايات ، يعني يسأل الرواة مثلاً ( إنه قرأ وشككنا في قراءته ) أو ( صلينا خلفه ولم نسأل عن قراءته نسياناً ) فإنَّ هذه ظاهرة ملفتة للنظر ولابد أن ينقلها أهل التاريخ ويقولون بأنَّها كانت موجودة ، أو تقول إنها تقع محلاً للسؤال والجواب عن فروعها في الروايات ، وعدم إشارة الروايات - حتى رواية ضعيفة - عمّا يرتبط بهذه القضية يدل على أنه لم يكن هناك سؤال ، كما في زماننا هذا فهو حينما يصلي جماعة فنحن نصلي خلفه مادام عادلاً.

وهكذا بالنسبة إلى الأعمال السابقة إذا لم تكن سيرتهم كما هي سيرتنا اليوم وأننا لا نأتي ونقول لعل زوجنا باطل أو لعل صلاتنا باطلة وغير ذلك وإنما نبنِ على صحة جميع اعمالنا السابقة، فلو كانت عادتهم في الزمن السابق بشكلٍ آخر - يعني كانوا يعتنون للاحتمال - لكانوا يسألون الامام عليه السلام ولانعكست هذه الظاهرة على الروايات والحال أنه لا توجد رواية يسأل فيها السائل ويقول ( إنَّ عملي السابق قبل عشرين سنة الآن شككت فهي فما هو حكمي ) ، فالسكوت يدل على أن عملهم كعملنا اليوم ، يعني أنهم لا يعتنون لكل الاحتمالات ، وهكذا حجية الظهور أو حجية خبر الثقة مثلاً ، فلو كان الظهور ليس بحجة فهذه ظاهرة غريبة ، ومعنى ذلك أنهم في ذلك الزمن إذا لم يكن الظهور معتمد عليه فلابد وأن يكون عندهم بديل عنه ، وما هو البديل ؟ إنه لابد وأن ينقل - يعني إلا الصراحة - ، وهذه ظاهرة غريبة جداً تستحق النقل والاشارة.وهكذا بالنسبة إلى حجية خبر الثقة ، فإذا لم يعتمدوا على خبر الثقة فعلى ماذا يعتمدون ؟ إنهم لا يعتمدون إلا على المحفوف بالقرينة القطعية ، وهذه ظاهرة غريبة تستحق النقل ، فإذن عدم الاشارة إلى اللوازم المترتبة على العادة المغايرة يدل على أنَّ العادة السابقة والسيرة السابقة هي نفس السيرة التي عليها نحن اليوم ، هذا فيما إذا كانت السيرة ثابتة في زماننا ونريد اثباتها في الزمن السالف.

وأما إذا لم تكن السيرة موجودة في زماننا:- مثل قاعدة ( الاسلام يجبّ ما قبله ) ، فإنه لا توجد رواية في ذلك وإنما كانت هنا سيرة جارية على ذلك ، فكيف نثبت أنَّ السيرة كانت على أنَّ الاسلام يجب ما قبله - وهذا واقع وليس على اللفظ - وأنّ الانسان حينما يصير مسلماً فلو كان قاتلاً لشخص أو ناهباً لماله أو غير ذلك فهذا كله يزول ، فنحن نريد أن نثبت هذه السيرة ، فكيف نثبتها ؟

يمكن اثباتها:- بأنه لو كان الاسلام لا يجبّ ما قبله فلو أسلم شخص وكان قاتلاً لشخص آخر لقتلوه قصاصاً ، أو كان سارقاً لغرّموه ، أو أنه يغتسل ويغسل ثيابه ، وهذه ظاهرة تستحق النقل وأن المسلمين في الزمن السالف حينما يسلم شخص يقولون له اذهب واغتسل وطهّر ثيابك وإذا كان قاتلاً لشخص يقتصّون منه ، فلو كان هذا موجوداً لنقل فإنَّ الظاهرة ليست ظاهرة واحدة وإنما الذين أسلموا هم الكثير ، فلابد وأن تصير هذه الظاهرة منقولة بشكل واضح ، والحال أنه لا يوجد في نصّ ولو ضعيف ينقل أنه أمر بأن يغسل ملابسة أو بدنه أو قُتِل مسلم بعد اسلامه أو من هذا القبيل ، وهذا كله يدل على أنَّ الاسلام يجب ما قبله ، ويدل على أنه بالإسلام تحصل الطهارة وإلا لنقل أنهم يأمرونه بأن يغتسل ويغسل ملابسه أوّلاً.وهكذا نقول بالنسبة إلى الطهارة بالتبعية - يعني أطفاله غير البالغين - فنقول إنَّ السيرة جرت على الطهارة التبعية ، يعني حينما يسلم الأب فإنَّ أولاده يتابعونه في الاسلام فيحكم عليهم بالإسلام وبالطهارة لنفس الكلام ، وإلا لو كانوا يعاملون بمعاملة أخرى فهذه ظاهرة غريبة تستحق النقل وعدم نقلها يدل على أنَّ السيرة جارية على الطهارة بالتبع ، والطهارة بالتبع تصير قضية طبيعية لا تستحق النقل ، وهلم جرا ، فالميزان هو ما أشرنا إليه.

نعم هناك بعض الظواهر قد يقال لا يمكن اثباتها بهذا الطريق الذي ذكرناه:- من قبيل دعوى السيرة على أنَّ الاماء لا يجب عليهن ستر شعورهن بخلاف الحرّة ، وما هو الدليل على ذلك ؟ الدليل هو السيرة ، فإنَّ السيرة في ذلك الزمن جرت على أنَّ كل شخص توجد عنده أمة أو أكثر وهن يدخلن كاشفات الشعر ، فكيف تثبت أنَّ الإماء في ذلك الزمان يدخلنَ بهذا الشكل ؟

إنَّ اثباتها بهذا الطريق الذي ذكرنا - من أنَّ هذه ظاهرة غريبة ولنقلت إلينا - لا يأتي هنا ، فإذن لابد من اثباتها من خلال النقل ، يعني من يراجع التاريخ يكون هذا المطلب عنده واضحاً ، يعني أنَّ الاماء كنَّ يدخلنَ بهذا الشكل فإنه يتسامح في حقّهن ما لا يتسامح في حق غيرهن ، فإنَّ المثبت لهذا هو التاريخ ، فمن يراجع التاريخ هكذا يفهم ، فلا تتمكن أن تقول نعم أو لا وإنما يحتاج إلى مراجعة التاريخ .هذا كلّه فيما إذا كانت السيرة سيرة متشرعة ، فإذا أريد اثباتها في زمن المعصوم يأتي هذا الكلام الذي أشرنا إليه.

ولذلك نتمكن أن نقول:- إنَّ عملية الاستنباط تحتاج إلى مجموعة علوم أحدها التاريخ ، لأنه من خلال التاريخ سوف نثبت أنَّ هذه السيرة كانت على دخول الإماء بهذا الشكل ، فالفقيه يستنبط الحكم من خلال هذه السيرة التي ثبتت بالتاريخ.

هذا بالنسبة إلى سيرة المتشرعة يعني إذا أردنا أن نثبت أنَّ سيرة المتشرعة كانت موجودة.

وأما إذا كانت سيرة عقلاء:- فالأمر أسهل ، كالسيرة على حجية خبر الثقة أو العمل بالظهور فإنَّ ذلك قضية يقتضيها الطبع العقلائي ، والطبع العقلائي واحد لا يختلف باختلاف العصور ، فإذا فرض الاعتماد على الظهور هو قضية عقلائية ويقتضيها الطبع العقلائي فإذا كانت ثابتة في زماننا فحتماً هي ثابتة في الزمن السالف بلا حاجة إلى تلك الوسائل التي أشرنا إليها سابقاً لإثبات سيرة المتشرّعة ، بل نكتفي بهذا المقدار ، ولا أريد أن أقول إنَّ تطبيق تلك الوسائل هنا ليس بصحيح ، بل قد تأتي هنا فيقال: لو كان عندهم طريقة ثانية في الاعتماد على تفهيم الكلام غير الظهور لنقلت إلينا .... الخ ، كلا بل بقطع النظر عن هذا نقول إننا لا نحتاج إلى هذا التطويل ، فإنَّ الاعتماد على الظهور وخبر الثقة قضية عقلائية يقتضيها الطبع العقلائي ، ومادام يقتضيها الطبع العقلائي فإذن هي ثابتة في الزمن السالف ، فإنَّ الطبع العقلائي واحد لا يتغير ، فحتماً هم كانوا يعتمدون على خبر الثقة وعلى الظهور ، إنّه من خلال هذا يمكن اثبات المعاصرة كما أوضحنا.

يبقى شيء آخر لابد من بحثه:- وهو أنه كيف نثبت أنَّ السيرة الموجودة في عصر المعصوم هي ممضاة ، والمهم هو وجود سيرة زائداً امضاؤها ، وهل سمعت في يوم من الايام أنَّ الامام عليه السلام قال أنا أمضي هذه السيرة ؟ إنَّ هذا ليس بموجود ، فإذن كيف تثبت الامضاء ؟ إنَّ الوسيلة لإثبات الامضاء هو عدم الردع ، فنقول إنَّ عدم الردع يدل على أنَّ الامام عليه السلام قد أمضى.

أما كيف يكون عدم الردع دليلاً على الامضاء ؟ذلك ببيانات ثلاثة:-