39/08/12
الموضوع:- مبحث الظن.
إنه قد يتمسّك ببيانين:-البيان الأول:- أن يقال: إنَّ السيرة لو كانت في الزمن السابق معاكسة إلى سيرتنا الفعلية لكان ذلك حدثاً تاريخياً مهماً وكان ينبغي تسجيله ، هذه ظاهر ملفتة للنظر ، فعدم نقلها في كتب التاريخ إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنه لم تكن هناك سيرة على عكس سيرتنا الفعلية وإلا لسجّل ذلك.
وجوابه:- إنَّ هذا وجيه إذا فرض أن التغير كان دفعياً لا تدريجيا وعادةً تغير السِيَر يكون تدريجياً ومادام تدريجياً فهو لا يلفت النظر إنما الذي يلفت النظر هو التغير الدفعي.
البيان الثاني:- قد يمسّك استصحاب القهقرى ، بأن نقول: إنه في زماننا هذه السيرة موجودة بالفعل ونشك في ثبوتها في الزمن السالف فبالاستصحاب نسحبها إلى الزمن الماضي ، وهذا الاستصحاب إن جرى فهو يثبت لنا أنَّ هذه السيرة موجودة في الزمن السالف لا أنه حديثة في زماننا ، وبذلك يثبت المطلوب.
ويردّ ذلك:-أوّلاً:- إنَّ استصحاب القهقرى لا دليل على حجيته إلا في مورد واحد أو لعله موردين فإنَّ مدرك حجية استصحاب القهقرى إن كان فهو ليس إلا اطلاق ( لا تنقض اليقين بالشك ).
ولكن يردّ بردّين:-الردّ الأول:- إنَّ هذا الاطلاق يمكن ان يقال بعدم حجيته في نفسه ، ، أما على مبنانا في باب الاطلاق وهو أنه لو خرج المتكلم وقال إنَّ مقصودي ليس هو المطلق بل المقيد فإذا قبل منه ذلك ولم يقبّح منه فالاطلاق لا ينعقد ، فإذن إذا استهجن العرف الاطلاق إذا قال إن ماردي المقيد واقعاً فهنا ينعقد الاطلاق أما إذا لم يستهجن الاطلاق فهنا لا ينعقد الاطلاق.
وتعال إلى موردنا لو فرض أنَّ الامام الصادق عليه السلام قال إنَّ مقصودي هو الاستصحاب المتعارف من ( لا تنقض ) فهل نستهجن منه هذا الاطلاق ؟ كلا لا نستهجن منه ذلك ، فإذا لم نستهجن منه الاطلاق فلا ينعقد الاطلاق حينئذٍ ، فإذن على مبنانا هنا لا ينعقد اطلاق اصلاً حتى نتمسك به .وإذا لم نأخذ بمبنانا فيمكن أن نجيب بجواب آخر ونقول: إنه لا يبعد انصرافه إلى الحالة المتعارفة ، والحالة المتعارفة من ( لا تنقض اليقين بالشك ) هي أنَّ المتيقن متقدّم والمشكوك متأخر لا بالعكس.
وإن شئت قلت:- إنَّ حديث ( لا تنقض اليقين بالشك ) يريد أن يبين مطلباً عقلائياً لا تعبدياً ، والقرينة على ذلك نفس التعليل وقوله عليه السلام ( فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ) ،ف ( وليس ينبغي لك ) يأتون به في القضايا العقلائية ، فالحديث يريد أن يبين مطلباً عقلائياً فيتحدد بمقدار ما عليه العقلاء ، وما عليه العقلاء هو الاستصحاب المتعارف وهو ما إذا كان المتيقن سابقاً والمشكوك لاحقاً لا العكس.
إذن نتمكن أن نقول إنَّ هذا الاطلاق لا يمكن أن نتمسّك به على مبنانا في باب الاطلاق ، بل وعلى غير مبنانا ، لأنَّ روايات الاستصحاب لا تريد أن تبّين مطلباً تعبّدياً بل عقلائياً للقرينة التي أشرنا إليها ، والذي هو عقلائي هي حالة تقدم اليقين لا حالة تأخره ، فإذن الاستصحاب القهقرائي ليس حجة ، نعم خرج منه مورد واحد وهو في باب اللغة يعني في باب اللغة ، فإذا فرضنا أنَّ كلمة كانت مستعملة في القرآن الكريم وفي الروايات ولكن في زماننا نفهم منها معنىً فحينئذٍ نقول إذن هذا المعنى الذي نفهمه هو المقصود من النص ، وكيف تثبت أنه هو المقصود من النص ؟ إنَّ هذا في واقعه استصحاب هذا المعنى الثابت الآن يقيناً إلى زمان صدور النص ، فهو استصحاب قهقرائي ، وكان صاحب المعالم يقول عن ذلك ( لأصالة عدم النقل ) ، فقال إنَّ صيغة الأمر تستعمل في زماننا هذا في الوجوب فإذا شككنا فبأصالة عدم النقل يثبت أنَّ ذلك ثابت شرعاً ، فإذن المقصود من أصالة عدم النقل هو الاستصحاب القهقرائي ، وهذا الاستصحاب مقبول في باب اللغة ، ومدركه السيرة العقلائية ، حيث إنَّ هناك سيرة عقلائية في باب اللغة على أنَّ المعنى إذا ثبت الآن فيقال هو ثابت في الزمن السابق أيضاً ، ولذلك نحن الآن نقرأ كتاب نهج البلاغة والكتب التاريخية السابقة فإذا لم يكن الاستصحاب القهقرائي حجة فلا فائدة من شراء نهج البلاغة وقراءته لأنك سوف تفهمه على طبق المعاني الموجودة الآن وهل هذه المعاني الموجودة الآن هي مقصودة في الزمان الذي تكلّم فيه امير المؤمنين عليه السلام ، فكيف تثبت ذلك فإنه لا يوجد عندك طريق ؟ ، فإذن لابد من وجود سيرة عقلائية على أنه إذا كان المعنى موجود الآن فيبني العقلاء على ثبوته في الزمن السالف ، إلا إذا كانت هناك مؤشرات توحي بالتغير والاختلاف ، أما إذا لم تكن هناك مؤشرات على التغير فنقول إنَّ هذا المعنى الثابت الآن هو نفس المعنى في الزمن السالف وإلا يلزم أن لا ننتفع بكل الكتب السابقة والحال أنَّ سيرة العقلاء ليست كذلك بلا إشكال ، فإذن دليل الاستصحاب القهقرائي في خصوص باب اللغة هو السيرة العقلائية في خصوص هذا المورد وليس اطلاق دليل الاستصحاب.
الردّ الثاني:- أن يقال: إنه أصل مثبت ، فإنك بالاستصحاب أقصى ما تثبت أنَّ هذه العادة الموجودة في زماننا هي موجودة في الزمن السالف ، ومجرّد وجود العادة في الزمن السالف لا يكفينا إلا أن يثبت امضاؤها ، فكيف تثبت امضاءها فإنَّ الامضاء ليس لازماً شرعياً وإنما هو لازم عادي ، فإنه إذا كانت السيرة موجود في ذلك الزمن فإذن هي ممضاة ، فالامضاء لا يمكن اثباته إلا من خلال الملازمة العادية ، فهذا الاستصحاب لا يمكن التمسّك به ، لأن أقصى ما يثبته لك هو أنَّ هذه السيرة موجودة في زمان الامام الصادق عليه السلام مثلاً ولكن ليس وجوداً تكويناً حقيقياً ، لأنه إذا كان وجوداً تكوينياً حقيقياً فسوف يثبت الامضاء بشكل قهري ، ولكنه يثبته لي بالتعبّد حيث يقول أنا اعبّدك لا أنها حتماً هي ثابتة ، فهذا وجود تعبّدي ، فهو يعبّدني بوجودها ، أما كيف تثبت إمضاؤها والمفروض أنَّ الامضاء ليس لازماً شرعياً لثبوت السيرة بالتعبّد ، فإنَّ التعبّد ببقاء السيرة ليس تعبّداً بالامضاء وليس لازماً شرعياً وإنما هو لازم عادي ، فإذن هذا الاستصحاب يكون استصحاباً مثبتاً ، ولا يخفى لطفه.