39/08/08
الموضوع:- أنحاء السيرة والارتكاز - مبحث الظن.
الارتكاز المحفوف بالنص:- وله أمثلة متعددة من جملتها آية الطلاق ، أعني قوله تعالى:- ﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهم لعدتهن وأحصوا العدّة ﴾ ، فـ ( طلقوهم لعدتهن ) ذكر المفسّرون بأنه يعني في وقتٍ يمكن أن يشرعْنَ في العدّة ، يعني إذا كانت طاهرة طهراً لم تواقعها فيه فحينئذٍ يمكن أن تشرع في العدّة ، وهذا تفسير مناسب ، أي لوقت عدّتهن .
والسؤال:- هو أنَّ هذا أمرٌ ، فإذا فرض أنَّ شخصاً طلق زوجته في وقت لا يمكن أن تشرع فيه في العدّة فهل صنع حراماً ويعاقب فإنَّ هذا أمرٌ وهو قد خالفه ؟ إنه لا يعاقب ، بل أقصى ما هناك أنَّ الطلاق باطل أما العقوبة فلا .وقد يجيب شخص ويقول:- إنَّ هذا تحدٍّ للشرع ، فهو مخالفة وعصيان تشريعي ، فهو يريد أن يقف أما الله تعالى ويشرّع ؟!!
ولكن نقول:- إنَّ هذه قضية ثانية ، أما نحن فنريد معصيةً للأمر من حيث هو أمر كسائر الموارد ، فكيف أنَّ أمر الصلاة لو تركه سوف يعاقب لكنه ليس من باب المعصية التشريعية ، فهنا هذه العقوبة ليست موجودة ، ولماذا هي ليست موجودة ؟ نقول:- ذلك للارتكاز ، فإنَّ هناك ارتكازاً متشرعياً في أنَّ هذا شرط للصحة ، والآية الكريمة تريد أن تشير إلى شرط الصحة ، يعني أنَّ ايقاع العقد في وقتٍ لا يصلح للعدّة المرتكز في أذهان المتشرعة أنه ليس من المحرّمات الذاتية ، وهذا الارتكاز متوارث والظاهر أنه لا يمكن لأحد إنكاره ، فإذن هذا الارتكاز المحفوف بهذا النص يجعلنا نفسّر هذا الأمر بالأمر الارشادي لا بالأمر المولوي فلذلك لا توجد عقوبة.
وهناك مثال ثانٍ:- وهو ( صلّ إلى القبلة ) ، فإذا صلى شخص إلى عكس القبلة فلا توجد عقوبة ، بل أقصى ما هناك أنَّ صلاته باطلة ، فهو صلّى عكس القبلة ثم ندم وتوجه إلى القبلة فلا توجد عقوبة ، فلا يقال إنك في فعملك الأول خالفت وعصيت الأمر ، بل نقول إنَّ هذا ليس أمراً مولوياً وإنما هو أمر ارشادي إلى شرطية استقبال القبلة حال الصلاة وأنه شرطٌ للصحة.أو ( لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ) ، فإنه يأتي فيها نفس الكلام ، فإذا صلّى فيما لا يؤكل لحمه كجلد السباع فأقصى ما هناك أنَّ صلاته باطلة أما العقوبة فلا ...... وهكذا ، لأن الارتكاز المتشرّعي يقتضي أنَّ هذه الأوامر ارشادية.
إذن الارتكاز تارةً ينفعنا في اثبات أصل الحكم ، وأخرى يكون محفوفاً بالنص فنفسّر النص على طبقه.وقد قلنا سابقاً ونقول الآن:- إنه إذا أرادنا أن نفهم النص ونطبّقه بقطع النظر عن هذه الارتكازات المتشرعية سوف نخرج بفقه جديد.فإذن هذا الارتكاز المقارن للنص قضية مهمة لا تغافلها ، ولأجل هذا مَن ليس عمله الفقه نقول له لا تتدخل بهذا العمل لأنَّ الاستنباط يحتاج إلى هذه الارتكازات وهي ليست موجودة عندك ، وإنما تحتاج إلى لفت نظر.ويوجد سؤالان وهما:-الأول:- هل تلزم معاصرة السيرة ؟
الثاني:- وكيف نثبتها ؟
أما بالنسبة إلى السؤال الأوّل فالجواب:- نعم تلزم العاصرة سواء كانت سيرة عقلائية أم كانت متشرعية ، إذ لو كانت سيرة عقلائية فليس لها حجية إلا عدم الردع ، فلابد أن يكون الامام موجوداً حتى يردع أو لا يردع ، أما إذا لم يكن موجوداً وحدثت السيرة بعد ذلك كيف تستكشف من السكوت الامضاء ، وهذا واضح ، وإذا كانت سيرة متشرّعية فيلزم أن تكون معاصرة ، إذ لو لم تكن معاصرة فهذا معناه أنها ليست متشرّعية فإنها لم تؤخذ من الشرع لأنها حدثت متأخراً ، وهذا واضح أيضاً .
وبناءً على هذا يترتّب أنَّ حق التأليف وحق النشر وحق الطبع وغيرها هل هي شرعية أو لا ؟الجواب الذي ينبغي أن يقال:- إنَّ هذه حقوق جديدة ظهرت في الآونة المتأخرة ولم تكن موجودة في عصر المعصوم عليه السلام فلا يمكن اثبات شرعيتها وأنها ممضاة شرعاً.
بيد أنه قد يقول قائل:- إنه يمكن اثبات امضاء حق النشر أيضاً ، ببيان:- إنَّ الشريعة الاسلامية لابد أن يكون لها موقف ازاء جميع الحوادث والموافق وإلا كانت ناقصة وليست بكاملة ، وعليه فلو لم يكن هذا الحق مرضياً لدى الشرع يلزم أن يشير إليه الامام عليه السلام ويردع عنه ولو بعموم من العمومات[1] بأن يقول:- ( كل قضية تستحدث بعد ذلك لا يمكن أن تكون ممضاة فربما تكون ممضاة وربما لا تكون ممضاة ) ، فسكوته يدل على الامضاء وإلا كانت الشريعة ناقصة.