الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/08/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- أنحاء السيرة والارتكاز - مبحث الظن.

أنحاء السيرة والارتكاز:-قد تكون السيرة سيرة على الحكم ، وقد تكون سيرة على الموضوع ، أما السيرة على الحكم كالسيرة على أنَّ من حاز ملك ، والملكية حكم ، أو سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة ، والحجية حكم ، فهذه سيرة على الحكم ، وأما السيرة على الموضوع كالسيرة على اشتراط عدم الغبن ، فإنا حينما أشتري فهناك شرط ضمني ثابت بالسيرة ، فإنَّ سيرة العقلاء هكذا جارية ، فهم حينما يشترون شيئاً فإنه يوجد شرط مضمر عند العقلاء ، فهذه سيرة على شرط عدم الغبن ، وهو شرط ضمني ، واشتراط عدم الغبن ليس حكماً وإنما هو موضوع للحكم ، وكالسيرة على اشتراط العمل في البيت بالنسبة إلى الزوجة ، فإنّ الشخص حينما يتزوّج امرأة في القرى والأرياف يوجد شرط ضمني جزماً للعمل معه في الحقل والمزرعة وغير ذلك وهذا قد جرت عليه السيرة.أما إذا كانت السيرة على الحكم فماذا يشترط في حجيتها ؟ إنه يشترط في حجيتها المعاصرة لزمن المعصوم عليه السلام من دون فرق بين أن تكون عقلائية أو متشرعية ، فهي يلزم أن تكون ثابتة في زمن المعصوم ، أما اشتراط أن تكون في زمن المعصوم إذا كانت عقلائية لأنها ليست حجة إلا إذا امضاها المعصوم بعدم الردع ، فلابد أن تكون معاصرة حتى يكون سكوته يدل على عدم الردع ، وإذا كانت سيرة متشرعية فلماذا يلزم المعاصرة ؟ لأنها إذا لم تكن معاصرة فلا تكون متشرعية ، لأنّ معنى متشرعية هي ما أخذت يداً بيد من صاحب الشريعة ، فإذا لم تكن موجودة في عهد المعصوم يعني حدثت بعد عهد المعصوم ، فهذه سيرة غير متشرعية ، فإذن السيرة على الحكم سواء كانت عقلائية أو متشرعية يلزم في حجيتها أن تكون معاصرة لزمن المعصوم - على قال وقيل وسيأتي- ، إذن شرط الحجية المعاصرة من دون فرق بين سيرة عقلائية وسيرة متشرّعية.وإذا ثبتت حجية هذه السيرة بسبب المعاصرة وعدم الردع فهي تصير ملزم لجميع الناس حتى من أراد رفضها فنقول له ليس لك حق الرفض ، لأنها مادامت معاصرة فهي ممضاة ، وإذا كانت ممضاة يعني هي حكم شرعي ، وإذا صار حكماً شرعياً فهو ثابت في حقّ الجميع فيلزم على الجميع التسليم له والأخذ به.وأما إذا كانت السيرة على الموضوع ، كاشتراط عمل الزوجة في البيت أو العمل مع الزوج في القرى والأرياف ، أو كاشتراط عدم الغبن فلا يشترط في حجيتها المعاصرة لعهد المعصوم عليه السلام ، كما أنه لو تمت لا تكون ملزمة للجميع.

أما أنه لا يلزم أن تكون معاصرة:- فلأنَّ هذه السيرة لا نثبت بها حكماً شرعياً حتى تقول إنَّ الأحكام السرعية لا يمكن استكشافها إلا بإمضاء الشرع ، كلا فإنَّ الحكم الشرعي ثابت بدليله هنا ، فإنه بالنسبة إلى الشرط الدليل عله هو ( المؤمنون عند شروطهم ) ، وأما بالنسبة إلى الغبن فأيضا ثابت بالدليل أنَّ المغبون له خيار الغبن ، فهذه السيرة لا نريد أن نثبت بها حكماً وإنما نريد أن نثبت بها الاشتراط فلا يلزم أن تكون معاصرة لزمن المعصوم عليه السلام ، فلو فرضنا أنه في زماننا تغيرت السيرة ، كما لو فرض أنه حدث اشتراط لشيء جديد غير مسألة عدم الغبن كاشتراط أن تكون الحاجة غير مستعملة لأحدٍ ، فهذه السيرة لو فرضنا أنها ثبتت في زماننا فسوف يتكوّن الشرط الضمني على أساسها رغم أنها ليست معاصرة لزمن المعصوم عليه السلام ، وهذا ليس شيئاً مهماً ، فليكن هي غير معاصرة ولكن نثبت بها الاشتراط ، فإنَّ المعاصرة نحتاجها إلى اثبات الحكم الشرعي ، أما اثبات الموضوع فمرّة يصير باللسان ومرّة يصير بسبب كشف السيرة ، فإذن لا يلزم المعاصرة ، كما أنَّ من شذَّ عنها لا يكون ملزماً بها ، كما لو فرضنا في القرى والأرياف تزوجت امرأة وقالت أثناء العقد أنا لا أقبل بالعمل في البيت - أي رفضت هذا الشرط الضمني - فحينئذٍ لا تكون ملزمة بالعمل في البيت لأنها رفضت الشرط ، فلا يصدق أنه قد اشترط عليها هذا الشرط حتى يشملها عموم ( المؤمنون عند شروطهم ).

إذن عرفنا أنه في باب السيرة على الموضوع لا يُلزَم بمقتضى السيرة من شذَّ عنها ورفضها ، بخلافه على السيرة على الحكم ، وهذا مائز بينهما ، ففي السيرة على الحكم هي تكشف عن حكم شرعي من الله عزّ وجلّ من خلال الامام عليه السلام ( من حاز ملك ) و ( خبر الثقة حجة ) ، فهذا حكم إلهي لا يمكنك أن تقف أمامه ، بخلافه في السيرة على الموضوع فهي تثبت لك الموضوع ، فهي تثبت لك وجود شرط ضمني فمن حقك أن لا تقبل به من البداية ، وهذا ليس رفضاً للحكم الشرعي حتى نقول هو لا يجوز ، وإنما هو رفض لموضوع الحكم الشرعي ، فإذا رفض الشرط فلا يشمله دليل ( المؤمنون عند شروطهم ).

وأيضاً اتضح أنه في السيرة على الحكم تلزم المعاصرة لأننا نريد أن نستكشف حكماً ، أما في السيرة على الموضوع لا تلزم المعاصرة لأننا نريد أن نحقّق شرطاً - موضوعاً - ولا نريد أن نحقّق حكماً.إذن عرفنا أنَّ السيرة على أنحاء ، فقد تكون سيرة على الحكم ، وقد تكون سيرة على الموضوع ، وتخالف كلّ واحدةٍ الأخرى في الشروط وفي بعض الأمور الأخرى.

وأما الارتكاز:- فأيضاً كذلك له نحوان ، فقد يكون الارتكاز على نفس الحكم الشرعي ، وقد يكون الارتكاز مقترناً بالرواية ونفسّر الرواية على طبقه.

أما بالنسبة إلى الارتكاز على الحكم:- فمثلاً يوجد كلام وهو أنه هل يجب قراءة السورة في الصلاة أو لا ؟ وافترض أنه لا توجد رواية عندنا تدل على ذلك كما هو بالفعل ، فإنه يوجد كلام بأنه هل توجد رواية تدل على ذلك أو لا ، ولكن نقول شيئاً آخر: وهو أننا نتسّمك لإثبات وجوب السورة بسيرة المؤمنين فإنهم يقرأون السورة ولا يوجد أحد مهم لا يقرأ السورة ، وهل هذا الدليل صحيح أو باطل ؟ إنه باطل ، فإنَّ السيرة أعم من الوجوب ، فنضّم قضية أخرى: وهي الارتكاز ، فنقول يوجد ارتكاز على وجوبها ، ونم اين أتى هذا الارتكاز ؟ فإذا كان يوجد هذا الارتكاز وهو ثابت فسوف نثبت به وجوب السورة ، فوجوب السورة لا نثبته بالسيرة لأنَّها على الفعل والعفل أعم من الوجوب ، ولكن نقول إنَّ المرتكز الشرعي على أنه يلزم الاتيان بها وأنها واجبة وهذا ارتكاز على الحكم.

ويوجد مثال آخر:- وهو أنه ما الدليل على عبادية العبادات ؟ ، فالوضوء يلزم فيه قصد القربة ، وكذلك الصلاة ، والصوم ، وغير ذلك ، فما هو الدليل على أنَّ هذه الأمور يشترط فيها قصد القربة ؟ قد تقول:- توجد آية أو رواية ، ولكني أقول:- لا توجد آية ولا رواية تدل على ذلك ، لأنَّ هذا حكم واضح فيحتاج إلى أن تأتي بآية أو رواية واضحة الدلالة عليه ولا يوجد هكذا دليل.

وتمسّك السيد الخوئي(قده) بحديث ( بني الاسلام على خمسة أشياء الولاية و.... والصلاة والصوم والحج ) ، ثم ضم مقدّمة وقال:- كيف يبنى الاسلام على شيء غير عبادي ؟!! بل لابد أن تكون هذه الأشياء عبادية .

ولكن قد يقول قائل:- ما المانع من أن يبنى الاسلام على أشياء غير عبادية ، فمثلاً نفس الولاية هي واجبة أما أنَّ قصد القربة هل هو لازم فيها ؟!! إنه لا يلزم فيها أن تقصد قربة إلى الله ، ونحن لا نريد أن نناقش هنا ، ولكن هذا سوف يثبت لك عبادية الصوم والصلاة ، ولكن كيف تثبت لي عبادة الوضوء مثلاً فإنَّه لا شك في عباديته ؟ إننا نثبت عباديته بالارتكاز فنقول هناك ارتكاز ثابت في أذهان الصغار والكبار من أهل العلم والفقهاء[1] أنَّ الوضوء يلزم فيه قصد القربة ، فمن أين أتى هذا ونحن نعلم بأن المعلول لا يصدر من غير علّة ؟ إنه لابد أنه أخذ يداً بيد وجيلاً عن جيل إلى أن يصل إلى الجيل المتصل بزرارة وزرارة أخذه بشكلٍ واضح من بيت العصمة والطهارة ، فإنه توجد أشياء واضحة نأخذها ونحن غير ملتفتين إليها ، كربطة العنق أو البنطلون فإنه من غير المناسب لطالب العلم أن يلبسهما مع العمامة ، وهل أبلغونا عن ذلك في بداية دخولنا إلى الحوزة العلمية ؟ كلا ، بل هناك أجواء واضحة تلقيناها يداً بيد بهذا الشكل ، فإذن هذا الارتكاز وهو ارتكاز على الحكم الشرعي - وهو لزوم قصد القربة - ، فإذن يوجد ارتكاز على نفس الحكم الشرعي.

ويوجد ارتكاز مرتبط ومتصل ومحفوف بالآية أو الرواية يحدد فهمنا ، يعني نفهم من الآية أو الرواية شيء معيّن بسبب هذا الارتكاز الموجود عندنا ، ولو جاء شخص من خارج فسوف لا يفهم هذا المعنى ، ولكن نحن الذين نعيش أوساط الشرع يوجد عندنا هذه الارتكازات ، ولذلك نحن لا نسمح بأن يأتي شخص من خارج الحوزة ويتدخّل في قضايانا يقول جئني بآية أو رواية تدل على كذا ، فنقول:- إنَّ هذا ليس من شأنك ، لأنَّ بعض الأمور مدركها ليس آية ولا رواية وإنما مدركها أمور أخرى كالارتكازات ، وهذه لا يعرفها إلا من كان يعيش أجواء الحوزة العلمية ، كما في الطب فإنه توجد أشياء في أوّليات الطب يعرفها الأطباء أما نحن فلا يصح لنا أن نقول لهم ما هو الدليل عليها ، فإنهم يرفضون هذا منّا ويقولون إنّ هذا ليس من اختصاكم ، وهنا أيضاً كذلك.

[1] وليس العوام لأنه قد تقول لي إنَّ هذا مأخوذ من الفتاوى.