39/08/05
الموضوع:- السيرة عقلائية ومتشرعة - مبحث الظن.
فارق بين السيرتين:-هناك فارق بين سيرة العقلاء وسيرة المتشرعة ، فسيرة العقلاء لأجل أن تكون حجة يلزم أوّلاً أن تكون ثابتة في عهد المعصوم عليه السلام ، وثانياً عدم الردع عنها ، وهذا واضح ، وأما سيرة المتشرعة فيلزم فيها الشرط الأوّل فقط إذ لو لم تكن معاصرة لزمن المعصوم فلا يثبت أنها متلقّاة منه ، فهي إنما كانت حجة باعتبار أنها كانت متلقاة منه فإذن لابد وأن تكون معاصرة لزمنه حتى تكون متلّقاة منه ، أما عدم الردع فلا نشترطه في حجيتها ، فإنَّ الردع خلف فرض كونها سيرة متشرعة متلقّاة من المعصوم عليه السلام فإنه لا معنى للردع ، بخلاف ذلك في سيرة العقلاء فيمكن أن تكون باطلة ويردع عنها المعصوم ، وهذا بخلاف سيرة المتشرعة فإنه مادمنا نفترض أنها سيرة متلقّاة من الشرع فلا معنى للردع عنها فإنَّ هذا تناقض ، فإذن لا يشترط عدم وجود الردع في سيرة المتشرعة.بل نقول أكثر وهو أنه لو كان هناك نهي فسيرة المتشرعة تكون مخصّصة لذلك النهي ، فلو فرض أنه يوجد نهي عن العمل بالظن كما هو موجود في الآية الكريمة والمفروض أنه توجد سيرة متشرعة على العمل ببعض الظنون فإنَّ بعض الظنون لا إشكال بأنه سيرة المتشرعة جرت على الأخذ بها ، فذلك الظن الذي عملت به سيرة المتشرعة نفس السيرة تكشف عن أنَّ هذا الاطلاق ليس بمقصود ، بل تصير هذه السيرة مقيدة لذلك الاطلاق فنقول قد خرج من هذا الاطلاق هذا المورد مثل العمل بخبر الثقة أو العمل بقول صاحب اليد أو العمل بالظهور مثلاً ، فإذا افترضنا أنها سيرة متشرعة فتصير مخصّصة لإطلاق الآيات الكريمة ، نعم إذا كانت سيرة عقلاء فالإطلاق يردع عنها ويسلب عنها الحجية ، وهذا فارق بين السيرتين.إذن الاطلاق في سيرة العقلاء يردع عن السيرة ، وأما الاطلاق في سيرة المتشرعة لا يردع عنها بل تكون سيرة المتشرّعة مقيِّدة أو مخصِّصة لذلك الاطلاق أو العموم ، وهذا فارق يجدر الالتفات إليه.ونضيف شيئاً:- وهو أنه في بعض الأحيان توجد سيرة متشرعة وكذلك يوجد دليل آخر ليس مطلقاً وإنما هو مساوً لها ، يعني بعبارة أخرى أنَّ الدليل يقول ( لا تعمل بخبر الثقة ) مثلاً وتوجد سيرة متشرعة فماذا نفعل هنا ؟ إنَّ التقييد أو الاطلاق لا معنى له هنا لأننا قد افترضنا أنَّ موردهما واحد ، بل هنا يتعارضان فنطرح النصّ ونقول إنَّ هذا النصّ مخالف لسيرة المتشرعة.
فإذن سيرة المتشرّعة قوية مادمنا قد فرضنا أنها سيرة متشرعة ، فهي لا أنها تقيد الاطلاق فقط ، بل حتى لو لم يكن اطلاق فهي تقف أمامه وتكسره فيسقط عن الاعتبار.حجية الارتكاز العقلائي:-قد يفترض أحياناً وجود سيرة عقلائية في مساحة ضيقة بيد أن الارتكاز العقلائي ذو مساحة أوسع كما مثلنا سابقاً بالحيازة فإنها جرت عليها سيرة العقلاء في مساحة ضيقة في السمك والماء والعشب وأما في النفط والغاز والطاقة الكهربائية والشلالات فلا توجد سيرة ، بيد أنَّ الارتكاز العقلائي لا يفرّق بين موردٍ وآخر ، يعني أنَّ العقلاء بنكاتهم العقلائية يبنون على أنَّ كلّ من حاز ملك ، فمادام هو قد حاز فقد ملك ، ولا تقل إذا حاز نفطاً أكثر من حاجته كيف يكون ذلك ؟ فنقول: إنَّ هذا دعنا عنه الآن ، ولكن نفترض أنه حاز كمية قليلة من النفط بمقدار حاجته فهنا السيرة لا تشمله لأنه في زمن المعصوم لم تكن هناك سيرة على حيازة النفط ، ولكن الارتكاز لا يفرّق من هذه الناحية فهل الحجّة هي السيرة بمساحتها الضيّقة أو الارتكاز بمساحة الأوسع ؟ ، وهذه مسألة ابتلائية مهمة.ربّ قائل يقول:- إنَّ المدار على مقدار السيرة وليس على الارتكاز ، إذ لو لم تكن سيرة موجودة في عصر المعصوم عليه السلام كمسألة حيازة مقدارٍ قليل من النفط فهو يردع عن ماذا ؟! إنَّ هذا ردع من دون وجود مردوع وهذا لا يمكن ، فعلى هذا الأساس يلزم أن نلاحظ السيرة ومقدارها فما انعقدت عليه يكون حجة ، إذ لو لم يكن حجة لردع الشرع عنه ، وهذا بخلاف ما إذا كان ارتكازاً فقط ، فإنه مادام لا توجد سيرة فلا معنى للردع ، إذ لا يوجد على الأرض شيء حتى يردع عنه ، وإلى هذا ذهب الشيخ الأصفهاني(قده) والسيد الخوئي(قده).
وفي المقابل يمكن أن نقول:- إنَّ المدار على سعة الارتكاز دون مقدار السيرة ، وذلك لأنَّ الامام عليه السلام ليس له منصب النهي عن المنكر فقط ، فلو كان منصبه الوحيد هو النهي عن المنكر فقط فمن الواضح أنَّ وجوب النهي عن المنكر فرع وجود المنكر ، وحيث لا توحد سيرة على المنكر وليس المنكر متحققاً على الأرض فلا معنى لردع الشرع آنذاك ، ولكن نقول: إنَّه بالإضافة إلى أنَّ له وظيفة النهي عن المنكر له وظيفة ثانية وهي الحفاظ على أهداف الشارع وأغراضه وأحكامه ومصالحه ، وحينئذٍ نقول لو فرض أنَّ الامام عليه السلام كان يعلم بأنَّ الارتكاز وسيعاً ولا يختصّ بدائرة الماء والأسماك والعشب وإنما يوجد ارتكاز أوسع من ذلك بحيث يمكن تطبيقه في الأزمنة اللاحقة فمن اللازم أن يردع عنه مادام هذا الارتكاز موجوداً بالفعل ويحتمل تطبيقه بعد فترة من باب أنه موظّف لحفظ أهداف الشارع وأحكامه ، وحينئذٍ مادام يوجد ارتكاز على السعة وهذا الارتكاز فعليٌّ فربما سوف يطبّق في الأزمنة الآتية فلابد وأن يردع عنه ، وعدم الردع يدل على مضائه ، وهذه قضية مهمة ، وإلى هذا ذهب جمعٌ آخر من الأصوليين
إن قلت:- إذا كان الامام عليه السلام منصوباً لحفظ أغراض الشارع ومصالحه وأنه يلزم أن ينهى عن الارتكاز لو كانت سعته مخالفة لأهداف الشارع فيلزم حتى لو فرض أنَّ الامام عليه السلام علم أنه بعد مائة سنة مثلاً سوف يحدث الشيء الفلاني وهو خلاف أهداف الشارع ، فإما أن تحدث سيرة جديدة أو يحدث ارتكاز جديد يتنافى مع ما يريده الشارع فإذا قلنا إنَّ المدار في وجوب الردع ليس على السيرة الفعلية بل حتى الارتكازات مادامت وسيعة فلابد من الردع عنها ، باعتبار أنه حافظ للشرع ، فمادام يعلم بحدوث هذا الارتكاز أو العمل المخالف للشرع فيلزم أن يردع عنه من الآن لأنه منصوب للحفاظ على أهداف الشارع ومصالحه ، وهل تلتزم ذلك ؟ إنَّ هذا لا يلتزم به جزماً ، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على أنَّ وظيفة الامام عليه السلام هي الردع عن السيرة الفعلية وليس عن الارتكازات ولو كانت هذه الارتكازات الوسيعة قد تضرّ بالشرع ، فليست وظيفته الردع وإنما المهم ملاحظة السيرة الفعلية بمساحتها الموجودة.
قلت:- يمكن أن يقال: إنَّ الامام عليه السلام منصوب للحفاظ على أهداف الشارع من دون ادخال قضية العلم بالغيب في الحساب ، بل مادام الشيء كان موجوداً على مستوى السيرة الفعلية أو على مستوى الارتكاز فيلزم الردع ، أما ما يحدث بعد مائة سنة مثلاً ويحتاج الردع عنه إلى تطبيق علم الغيب فهذا ليس من وظيفة الامام عليه السلام ، إنما الذي من وظيفته هو هذا المقدار أما ما زاد - وهو الذي يحتاج إلى علم الغيب - فلم يثبت أنه من وظيفته الردع عنه ، ولعل هذه القضية عقلائية ، فعقلائياً الأمر كذلك ، يعني أنت إذا رأيت شيئاً منكراً بالعفل فسوف تردع عنه ، فلو رأى المرجع الأعلى مثلاً سيرة غير صحيحة بل ارتكازاً موجوداً بالفعل في الأذهان ويحتمل أنه سوف يصل إلى مرادات الشارع بعد فترة فيلزم أن يردع عنه بعد العلم بكونه سوف يصير فعلياً بعد فترة ، فعقلائياً يلزم الردع عنه وهذا شيء عقلائي ، أما الذي يحدث بعد مائة سنة فهل عقلائيا يلزم أن يردع عنه ؟ كلا ، بل لعل الردع عنه من الآن شيء موهون لأنَّ هكذا ارتكاز لا يعيشه هؤلاء الناس فإذن الارتكاز اذلي يحدث بعد مائة سنة لا يلزم الردع عنه من الآن ، لأنه لم يثبت أنه من مناصب الأمام ذلك ، أما الشيء الحاضر بالفعل إما على مستوى السيرة بالفعل أو على مستوى الارتكاز بالفعل فمن المناسب إذا لم يكن هذا الارتكاز مخالفاً للشرع ويخاف أن يطبّق في يومٍ من الأيام على الأرض فمن المناسب الردع عنه من الآن.
إذن المناسب هو الرأي الثاني دون الأوّل ، وهذه قضية مهمة وينبغي اتخاذ القرار تجاهها لأنَّ هذه المسألة لها آثارها.
وتوجد بعض المؤيدات تؤيد هذا الاحتمال الثاني:-