الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/08/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

ولماذا برزت ظاهرة التمسّك بالسيرة في العصور المتأخرة بينما لم تكن موجودة إلا من زمن العلامة الحلّي حيث أشار إلى بناء العقلاء ثم بعد ذلك أخذ الفقهاء يتمسّكون بها بشكل وسيع ، فما هو السبب في ذلك ؟

والجواب:- يمكن أن يفسّر ذلك بأنَّ بعض الأحكام حينما يواجها الفقيه يسلّم بها من الأعماق ولكن هذا التسليم وحده لا يكفي ما لم يستدل على تلك الأحكام ، فمجرّد أنه حكمٌ له قناعة فهذا لا يكفي وإنما يحتاج إلى دليل ، وهذا الشعور الداخلي بقبول هذا الحكم من دون أن يستدل له بصيغة علمية ليس شيئاً مقبولاً ، والفقهاء المتأخرون واجهوا هذه المشكلة فإنَّ بعض الأحكام من هذا القبيل ، وكما مثّلنا بتكبيرة الاحرام فما هي تكبيرة الاحرام في الصلاة فهل هي صيغة ( الله أكبر ) فأنت كفقيه به تسلّم بهذا الحكم من داخل نفسك قبل أن نستدل عليه ، فأنت تشعر بأنَّ هذا الحكم مسلّم ولا تقبل النقاش فيه ولكن هذه القناعة - بأنه يلزم صيغة ( الله أكبر ) - لا يكفي بل يحتاج إلى دليل ، وهذه قضية حقيقية نبيّنها وليست قضية فرضية فواقعاً الأمر كذلك ، فإنَّ الروايات لم تذكر أنَّ الصيغة هي ( الله أكبر ) وإنما قالت ( يكبّر ).

وقد تقول لي:- إنه صحيح أنَّ الرواية لم تقل ( قل الله أكبر ) لكن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كانوا يقولون ( الله أكبر ) جزماً.وجوابه:- إنَّ هذا فعلٌ وهو لا يدل على التعيّن وأنَّ هذه صيغة معينة ، بل لعله أفضل أفراد الصيغة الجائزة ، فمادامت الروايات قالت ( فليكبّر ) نقول ( يكبّر ) يصدق على ( ربنا أكبر ) أو غيرها من الصيغ ، فبالتالي يحتاج الفقيه إلى دليل لأثبات أن هذه الصيغة هي المتعيّنة ، وهذه قضية واقعية وسوف تلمسونها فميا بعد ، يعني حينما تريد أن تستدل على الأحكام فسوف تواجه هذه المشكلة ، فالنصّ يقول ( فليكبر ) ومقتضى اطلاقه الاكتفاء بأي صيغة للتكبير ، ولكن قلباً ونفساً يصعب على الفقيه التمسّك بالإطلاق وإنما يريد صيغة ( الله اكبر ) ولكن هذه الارادة القلبية لا تنفع وإنما تحتاج إلى دليل على ذلك فيتأمل ويبحث عن دليل لإثبات ذلك ، ونظير ذلك التشهّد والتسليم ، فإنَّ الرواية تقول ( يتشهد ويصلي عليه ويسلم ) فصيغة الصلاة لم تُبيَّن فهل يلزم هذه الصيغة المعهودة أو يكفي أن يقول ( اللهم صل وسلم على محمد .... ) فإنَّ هذا جائر بمقتضى الاطلاق ، ولكن الفقيه يصعب عليه تجاوز هذه القضية ، فالشعور بهذه المشكلة يجعل الفقيه يفكّر في تحصيل الدليل ، فمن هنا يأتي إذا ذهنه السيرة فيقول إنَّ سيرة المسلمين كانت جارية على هذا ، إذ لم ينقل خلاف في ذلك ، ولو كان بعض المسلمين يأتي بها بهذا الشكل وبعضهم يأتي بهذا بذاك الشكل فهذه ظاهرة مهمة ولنقلت وانعكست إلينا ، فمن عدم انعكاسها يتبيّن أنهم كلّهم كانوا يفعلون هكذا ، وهذا يدل على أن النص حينما قال ( فليصل ) إشارة إلى الفرد المعهود في السيرة يعني فليصلِّ هذه الصلاة المعهودة في السيرة وليكبر هذا التكبير المعهود في السيرة.إذن الذي جعلنا نفكّر في السيرة ونتمسّك بها هو شعورنا بأن بعض الأحكام لا ينبغي الشك فيها ولكن تحتاج إلى صيغة علمية لإثباتها هذه الحاجة هي التي جعلت الفقيه يفكّر فوصل إلى مسألة السيرة وأخذ يتمسّك بها.يبقى أنه لماذا لم يفكر القدماء كما فكرنا وحينئذٍ كان من المناسب أن يبرز عندهم التمسّك بالسيرة ؟

نقول:- إنَّ هذا ناشئ من تطوّر العلوم فإنَّ علم الفقه في زماننا تطور أكثر من الزمان السابق فإنَّ الدقة صارت أكثر ، نعم هم عندهم سعة اطلاع كبيرة على الفقه وكلمات الفقهاء ولعلّ هذه السعة ليست موجودة عندنا لكن الدّقة التي نملكها هم لا يملكونها فراجع استدلالات العلامة والشيخ والطوسي وغيرهما ، فإذن أمرهم بمني على التساهل ، يعني لا يلزم أنه أجلب دليلاً علمياً على أنَّ صيغة التكبير هي هذه الصيغة المعهودة ، كلا بل هو يتساهل من هذه الناحية ولا يذكر دليلاً على ذلك فعنده مسلّم بأنَّ التكبير والسليم والصلاة بهذا الشكل ، ولكن حينما نأتي على البحث العلمي فتطالب بدليل فذللك نفكر في الدليل فتوصلنا إلى هذه الطريقة ، فنقول إنَّ الرواية حينما قالت ( فليصل ) حيث إنه توجد سيرة معهودة إلى طريقة الصلاة فالإمام عليه لا يبعد أنه يشير إلى هذه الطريقة المعهودة ولذلك سكت ولم يبيّن الطريقة فهذه إشارة إلى الفرد المعهود وهذه تصير قرينة متصلة تمنع من التمسّك بالإطلاق ، وهذا كلام دقيق لم يكن موجوداً سابقاً.

وكذلك الظهور ، فإنهم يتمسّكون به ، ولكن لماذا هو حجة فهذا أيضاً يحتاج إلى دليل علمي ؟الفقهاء السابقون لا يحتاجون إلى دليل لإثبات حجيته ، فإنه لا يوجد من يناقش في حجية الظهور فتراهم لا يستدلون على حجيته ، ولكن المتأخرين حيث إنه توجد دقة عندهم وأنه ما هو الدليل على حجية الظهور فهنا برزت الحاجة إلى أنَّ سيرة العقلاء جرت على ذلك ، فلو كانت لدى لشارع طريقة أخرى في تفهيم مراداته غير هذه الطريقة العقلائية لنبّه عليها ، فإذن التمسك بالسيرة بهذا البيان التفت إليه المتأخرون بسبب أنَّ المتقدمين لم تكن هذه الدقة موجودة عندهم ولكونها أحكام شبة المسلّمة عندهم فلا حاجة إلى أن يستدلوا عليها ، ولكن حينما وصلت النوبة إلينا صار البناء على أن كلَّ حكمٍ لابد وأن نستدلّ عليه فبرزت الحاجة إلى التمسّك بالسيرة.وهكذا بالنسبة إلى ( الاسلام يجب ما قبله ) ، فإنَّ القدماء لم يستدلوا لها بدليل بل ذكروا أنَّ المشهور بين الأصحاب هو هذا ، ولكن هذا لا يكفينا يحث لا نقول بحجية قول المشهور بل نحتاج إلى صياغة علمية للاستدلال عليها فقلنا حينئذٍ بسيرة المسلمين في الحروب وأنه حينما يسلم شخصاً لا يقولون له تعال صلّ وصم ما فاتك ، ولو كان الأمر كذلك لنقل التاريخ أو الاحاديث ذلك ، فلو كان لبان ، فالسيرة جارية على خلاف ذلك ، وهذه طريقة علمية ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الموارد.إذن عرفنا وجه النكتة في بروز التمسّك بالسيرة في الآونة المتأخرة بخلاف الآونة المتقدّمة ، فإنَّ قربهم من عهد النصّ جعلهم يستغنون عن الطريقة ، بخلافه الآن.السيرة عقلائية ومتشرعة:-تنقسم السيرة إلى سيرة عقلائية وارتكاز عقلائي وهذان اثنان ، وإلى سيرة متشرعية وارتكاز متشرعي وهذان اثنان أيضاً ، فصار المجموع أربعة أقسام.وما الفارق بين السيرة والارتكاز ؟

الجواب:- إنَّ السيرة ترتبط بجنبة العمل ، فحينما نقول سيرة العقلاء جرت على العمل بالظاهر فهذا معناه أنَّ هناك عمل بالظاهر والعقلاء جروا على العمل بالظواهر ، فالسيرة دائماً هي على العمل ، وهذا بخلافة بالنسبة إلى الارتكاز فإنه يعني وجود ارتكاز في الذهن على شيءٍ أما الجنبة العملية فليست ملحوظة أبداً ، فالارتكاز ناظر إلى قضية مركوزة في الذهن بقطع النطر عن جنبة العمل ، وأما السيرة فهي ناظرة إلى جنبة العمل بقطع النظر عمّا هو المركوز في الذهن ، من دون فرق بين سيرة العقلاء والارتكاز العقلائي من هذه الناحية ، فسيرة العقلاء تمثل عملاً والارتكاز العقلائي يمثل نظرية وليس عملاً ، وهكذا بالنسبة إلى سيرة المتشرّعة والارتكاز المتشرّعي ، فسيرة المتشرّعة تمثل عملاً أما الارتكاز المتشرّعي فيمثل عقيدة ويمثل نظرية في الذهن ولا يمثل عملاً ، وقد يتفقان وقد يختلفان ، يعني قد تتوافق سيرة العقلاء مع الارتكاز العقلائي ، من قبيل العمل بالظاهر فإنَّ العقلاء جرت سيرتهم على العمل بالظواهر ، وفي نفس الوقت يوجد ارتكاز في أذهانهم على لزوم العمل بالظواهر ، فكما أنَّ هناك لزوم للعمل بالكلام الصريح النص كذلك يوجد ارتكاز في أذهانهم على هذا المعنى ، وقد يختلفان كالسيرة على ( من حاز ملك ) ، فإنَّ هذه السيرة كانت موجودة في زمان الأئمة عليهم السلام على أنَّ من حاز ملك ، فالصياد حينما يصطاد السمك من النهر فلا يزاحمه أحد وهذه سيرة جارية بلا شكال ، فالذي يصيد ما صاده يكون له ولا نحتمل أنَّ الغير كان يزاحمه في ذلك ، وإذا فرض أنه أخرج من النهر قربة من الماء فقد جرت السيرة على أنه لا يزاحمه أحد في ذلك ، فإذن توجد سيرة جارية على ذلك ، ولكن هل هناك سيرة على أنَّ من أخرج بئراً نفطياً بالمكائن مَلَكه أيضاً فإنه في ذلك الزمن لم يكن هناك نفط ولم تكن سيرة على ذلك - حتى لو كان النفط قليلاً وليس كثيراً - وكذلك الغاز ؟ ، ولكن لو رجعنا إلى الارتكاز فهو لا يفرّق بين أن يجوز الماء وبين أن يجوز كمية من النفط ، ولكن كم هو مقدار كمية النفط ؟ كارتكاز عقلائي فإنَّ الارتكاز العقلائي وسيع فهل لك الحق أن تحوز النفط بأيّ مقدارٍ كان أو يجوز لك الحيازة بمقدار حاجتك ؟ إنَّ القدر المتيقن من الارتكاز العقلائي هو مقدار حاجتك ، أما أخذ كميات كبيره فهل يوجد ارتكاز عقلائي هنا على أنه أيضاً يكون لمن حاز ملك ؟ إنّ هذا أوّل الكلام ، وهذه قضية جانبية ليست هي مقصودنا.

والذي نريد بيانه:- هو أنه لو نظرنا إلى السيرة فهي تقول إنَّ من حاز السمك أو الماء أو ما شاكل فقد ملكه ، أما من حاز نفطاً فلم يكن النفط موجوداً سابقاً ولكن إذا رجعنا إلى الارتكاز العقلائي فهو موجود حتى بالنسبة إلى النفط أيضاً ولكن القدر المتيقّن منه قدر حاجة الانسان.وهكذا الحال بالنسبة إلى أهل الخبرة فإنه موجود الآن ، فنرجع إلى اللغوي في القضية اللغوية ، أما الرجوع إلى المجتهد في مسائل التقليد فهل كانت توجد سيرة في عهد الأئمة عليهم السلام على الرجوع إلى المجتهدين ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام ، لأنَّ الامام عليه السلام كان موجوداً فلا حاجة إلى ذلك ، ولكن لو رجعنا الارتكاز العقلائي فهو يقول إنَّ كلّ جاهل بفنّ يرجع إلى ذوي الخبرة ، فهذا الارتكاز موجود وأوسع من معقد السيرة ، فبسبب هذا الارتكاز نقول يجوز الرجع إلى المجتهد أيضاً رغم عدم وجود هذه السيرة ولكن هذا الارتكاز العقلائي موجود وحيث لا ردع عنه فيثبت امضاؤه آنذاك ويكون حجة ، ولذلك من أحد الأدلة التي يتمسّك بها لإثبات جواز التقليد هو هذا الارتكاز العقلائي الذي لم يرد عنه ردع فيكون ممضىً.