الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/07/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

الأمارات التي قد يقال بحجيتها ونبحث هل هي حجة أو لا:-

الأولى:- السيرة.

وإنما جعلنا السيرة أوّل الأمور التي نبحثها ولم نبحث خير الثقة أوّلاً ؟ ذلك باعتبار أنَّ خبر الثقة نستدل عليه بالسيرة ، فلابد وأن نلاحظ في البداية أنَّ السيرة حجة أو لا ، فمن هنا قدّمنا البحث عنها.

ونلفت النظر شيء:- وهو أنَّ التمّسك بالسيرة ظاهرة ليست قديمة وإنما هي متأخرة ، فمثلاً لو رجعت إلى كلمات الشيخ الطوسي(قده) وابن إدريس وغيرهما لم تجدهم يتمسّكون بالسيرة ، ولعل أو من تمسّك بها على ما ذكر الشيخ الأعظم(قده) هو العلامة الحلّي في باب الاستصحاب ، حيث ذكر الشيخ الأعظم(قده) أنَّ الأدلة على حجية الاستصحاب متعدّدة منها الأخبار والاجماع والسيرة التي ادّعاها العلامة ، ونصّ عبارته:- ( ومنها بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم كما ادّعاه العلامة رحمه الله في النهاية وأكثر من تأخّر عنه )[1] ، وفي أصول المظفر أيضاً ذكر أنَّ هذا مركوز حتى عند الحيوانات ، ألا ترى أن الطيور ترجع إلى أوكارها فالأم تذهب لجمع الأكل وجلبه إلى فراخها ولا تقول لعلّ الفراخ ماتوا أو تم تخريب العش وغير ذلك.

فالمهم أنَّ الأعلام قد أشاروا إلى بناء العقلاء الذي هو عبارة عن سيرة العقلاء ، وبعد ذلك أخذوا يتمسّكون بالسيرة منهم الشيخ الأعظم(قده) ، حيث تمسّك بها في موارد منها حجية خبر الثقة حيث قال:- ( الرابع استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة في أمورهم العادية ومنها الأمور الحارية من الموالي إلى العبيد فنقول ... )[2] .

ولكن لا نرى بحثاً عن السيرة رغم أنه توسّع التمسّك بها ، فالشيخ الأعظم(قده) لم يعقد بحثاً عن السيرة في رسائله ، وهكذا صاحب الكفاية(قده).وعلى أيّ حال مجالات التمسّك بالسيرة أصبحت كثيرة سنبيّن بعض الموارد حتى تعرف أهمية البحث عن السيرة:-فمن جملة الموارد:- حجية الاستصحاب وحجة الخبر وحجية الظواهر ، ومن أحد الطرق لإثبات جواز التقليد هو السيرة حيث يقال إنَّ سيرة العقلاء قد جرت بالرجوع إلى صاحب كل فنٍّ في فنّه ، فالطبيب نرجع إليه في الطبابة ، والمهندس نرجع إليه في مجاله الخاص ، والنحوي نرجع إليه في القضايا النحوية ، كذلك في الأحكام الشرعية يلزم الروع إلى الخبير وصاحب الفنّ وهو الفقيه ، وهذه سيرة عقلائية بالرجوع إلى كلّ صاحب فنٍّ في فنّه وكلّ صاحب خبرة في خبرته ، ولكن هذا يحتاج إلى متمّم وهو أنه حيث أنك تسلّم بهذا فنقول حينئذٍ حيث إنَّ هذه السيرة لم يرد الردع عنها فنحن لم نلحظ الردع في مجال التقليد في الأحكام الشرعية فذلك يدلّ على الامضاء .ومن ذلك حجية الاطمئنان:- فإنَّ العلم حجة بلا إشكال لأنه لا يمكن سلب الحجية عنه أصلاً ، أما الاطمئنان الذي يمكن أن نعبّر عنه بالعلم العادي وهو بدرجة 95 % مثلاً فمن أحد الأدلة على حجيته هو استقرار سيرة العقلاء عليه ، وأغلب قضايانا مبنية على الاطمئنان كمجيئنا للدرس فمن قال إنه يوجد درس هذا اليوم ؟ إنه يوجد عندنا اطمئنان ، لأنه لو لم يكن هناك درس لنبّه على ذلك ولشاع ذلك فبالتالي حصل لك الاطمئنان ، وكذلك حينما تُقدِم على الزواج من هذه المرأة أو جاء لك خاطب فلو سألت عنه وحصل لك الاطمئنان فسوف تزوّجه ، أو إذا أردت أن تشتري داراً .... وهكذا.ومن الأمور التي يتمسّك فيها بالسيرة ( الأمر بالعمل موجب للضمان ) ، كما أنَّ من موجبات الصمان اتلاف مال الغير ، ولكن من قال إنَّ اتلاف الغير موجب للضمان ؟ فلو قلت:- إنَّ الموجب هو قاعدة على اليد ، فأقول:- إنَّ قاعدة على اليد ما هو مستندها ؟! ولو قلت: إنَّ دليلها رواية منقولة في كتاب عوالي اللآلي ، فنقول:- إنها مرسلة ، وإنما مدرك قاعدة على اليد هو السيرة العقلائية ، فإذا وضع شخص يده على شيء وحصل تلف فالناس يقولون له أنت قد تصرّفت فتكون ضامناً ، فمدرك قاعدة على اليد هي السيرة العقلائية الممضاة بعدم الردع.وهكذا قاعدة ( من أتلف مال الغير فهو له ضامن ) أيضاً كذلك ، فالضمان عندنا بالإتلاف مدركه السيرة ، ويوجد عندنا ضمان متعارف الآن وهو أنَّ البنك يطلب من المقترض ضامن ، وكذلك يوجد عندنا عقد الضمان ، ولكن يوجد عندنا مضان بشكلٍ آخر ، وهو أن أقول لشخصٍ احمل لي هذا الشيء وأوصله إلى داري ولكني لم يتفق معه على أجرة ، فلو قالت أنا لم أقل لك أنا ضامن فهل يصح هذا ؟ كلا ، بل إني قد أمرته بالعمل والأمر بالعمل جرت سيرة العقلاء على أنه موجب للضمان ، فالطبيب حينما ترسل له المريض فإنك قد أمرته أن يفحصه ويصف له الدواء وكذلك البنّاء .... وهكذا ، فنفس الأمر بالعمل هو من أحد موجبات الضمان ومدركه السيرة العقلائية ، وهذا الضمان ليس هو الضمان الشرعي الذي ذكر في الكتب الفقهية فإنَّ هذا المعنى ليس موجوداً في كتاب الضمان كالشرائع واللمعة وغيرهما ، ولكن هذا المعنى ينبغي الالتفات إليه أنَّ نفس الأمر بالعمل من دون تعيين أجرة موجب للضمان بأجرة المثل فإنَّ سيرة العقلاء جارية على ذلك ، وحيث إنَّ هذه السيرة غير مردوع عنها فيثبت حينئذٍ الامضاء.

ويوجد مورد آخر لذلك:- وهو الاجارة ، فإنه لو بحثنا على رواية تدل على شرعية الاجارة في كلّ مجالاتها لم نجد ذلك ، ولا تقل:- توجد صحيحة أبي ولّاد التي تقول:- ( اكتريت بغلاً إلى قصر بني ... ) فإنَّ هذه واردة في الاجارة في هذه الحصّة وفي هذا المجال أما الاجارة في الموارد الأخرى غير مسألة اكتراء البغل وما شاكل ذلك فهذا كيف نأتي بدليل يثبت صحة الاجارة فيه ، كأن أقوم بإجارة سيارة للذهاب إلى كربلاء أو اجارة خَتّانٍ للخِتان أو حلّاق للحلاقة فكيف نثبت شرعية هذه الأمور ، ثم نذهب إلى اجارة الرحم فهل هذه الاجارة صحيحة أو لا ؟ فأول إشكال يواجهنا في صحة ذلك أنه ما هو الدليل على صحة الاجارة في هذا المور فهل يوجد اطلاق أو عموم يتمسك به أو لا ؟ إنه لا يوجد عندنا عموم أو اطلاق ، بل أقصى دليل عندنا هو سيرة العقلاء فإنها جرت على الاجارة ، وإذا كانت توجد عندنا نصوص فهي في موارد خاصة ، أما السيرة فهي دليل لبّي يقتصر فيها على القدر المتيقن ، فإذن لا يوجد عندنا دليل على صحة هذه الاجارة ، فإذن ماذا نفعل ؟ إنَّ هذه قضية ثانية ، والذي نريد أن نقوله هو إنَّ مدرك عموم صحة الاجارة هو سيرة العقلاء وإلا لا يوجد عندنا دليل لفظي على ذلك.

ومن جملة الموارد:- زوال الملكية بالإعراض ، كما لو أخرج الانسان أشياءً قديمة من داره ورماها في الشارع فجاء شخصٌ آخر فأخذ شيئاً منها فهل يزول ملك الأوّل عنها ؟ إنه يستدل على زوال الملك بالإعراض بالسيرة العقلائية ، فإنَّ السيرة جرت على ذلك ، فإنَّ من أعرض عن شيء يتعامل معه معاملة غير المالك ، أما أنَّ هذا صحيح أو لا فنحن الآن لسنا بصدده ، ولكن المقصود أنَّ هذا دليل يتمسّك به على أنَّ الاعراض موجب لزوال الملكية.ومن جملة الموارد:- النيابة عن الحي في زيارة المعصومين عليهم السلام ، كما لو آجر شخصاً لزيارة الحسين عليه السلام نيابة عنه ، فما هو الدليل على الشرعية ؟ ، ومن الواضح أنه إذا كان الشخص المنوب عنه ميتاً فلا إشكال في الصحة ، لأنه توجد عندنا رواية تقول إنَّ الميت ينتفع بأعمال الحي ، أما لو كان المستأجر حيّاً وبعث آخر في الأمور المستحبة فهل يوجد دليل على صحة ذلك ؟ إنَّ الدليل على ذلك أمران ، الأول وجود رواية عن الامام العسكري عليه السلام حيث أرسل شخصاً لزيارة قبر جدّه الحسين عليه السلام نيابة عنه ، والثاني سيرة العقلاء فإنها جرت على ارسال ممثّلين ، كما لو كان هنا مجلس فاتحة فيرسل الرجل أولاده نيابة عنه فإنه توجد سيرة على ذلك في مثل هذه الأمور ، وحيث إنَّ هذه السيرة غير مردوع عنها فيثبت بذلك الامضاء ، وهي تشمل مثل موردنا فأنا أبعث ممثلاً عنّي لأجل أن يسلّم على الامام عليه السلام ويزور لا أكثر من ذلك فهذه سيرة جارية ، ونضم ضميمة وهي أنَّ هذه السيرة إذا لم تكن مرضية عند الشرع يلزم الردع عنها لأنه من المحتمل أن يطبقها العقلاء في المجال الشرعي ، ولكن هذا سيأتي فيما بعد وأنه هل يصح التمسّك بالسيرة أو لا ، ولكن نحن نريد أن نبيّن موارد يتمسّك فيها بالسيرة أما أنَّ هذا التمسّك صحيح أو لا فهذا أمر آخر.ومن موارد ذلك:- قاعدة ( الاسلام يجب ما قبله ) ، فإنه لا توجد رواية تدل على ذلك ، وإنما السيرة الثابتة بالتاريخ بأنَّ الشخص الذي يتشهّد الشهادتين يعامل معاملة المسلم ، وهذا هو الذي تعلّمناه في اللمعة من أنَّ الاسلام يجبّ ما قبله وهذه قاعدة متصيّدة من السيرة وإلا فلا توجد رواية لها اطلاق يمكن التمسّك به لذلك.ومن موارد ذلك:- اثبات أنَّ صيغة التكبير هي ( الله أكبر ) في الصلاة ، فكيف نثبت أنَّ صيغة التكبير في الصلاة هي هذه الصيغة فإنَّ الموجود في الروايات هو ( فليكبّر) أما صيغة التكبير فهي ليست مذكورة ، فيكف نثبت ذلك ؟ فقد يقول قائل:- لنتمسّك بالإطلاق ، فيكفي أن يقول ( ربنا أكبر ) أو ( خالقنا أكبر ) فإنَّ هذا تكبير ، فإذن كيف نثبت أنَّ التكبير لابد أن يكون بصيغة ( الله أكبر ) ؟ ، ونفس الشيء يأتي في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله في التشهّد فإنه لا توجد في الرواية كيفية الصلاة في التشهد بل قالت ( وليصلِّ ) فكيف نثبت ذلك ؟ إنَّ هذا نثبته بالسيرة ، حيث جرت السيرة في التكبير على هذه الصيغة ، وهذه السيرة توارثناها بلا شكال ، وأيضا توجد سيرة في باب الصلاة بهذا الشكل أيضاً ، فبضمّ تلك السيرة إلى هذا التوارث يثبت تعيين تلك الصيغة ، وهل هذه طريقة أو صحيحة أو لا ؟ إنَّ هذا ليس محل كلامنا ، ولكن المقصود أنَّ هذا من موارد التمسّك بالسيرة ... وهناك الكثير من الموارد على هذا النحو الذي بيناه.

[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج3، ص94.
[2] فرائد الأصول، الأنصاري، ج1، ص345.