الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/07/29
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث الظن.
ويرده:- هل مقصود الشيخ النائيني(قده) أنه يلزم محذور تحصيل الحاصل أو بتعبير آخر الاثبات بالتعبّد لما هو ثابت بالوجدان أو أنه يريد أن يبيّن محذور اللغوية وإنه يلزم محذور اللغوية فإنَّ نفي التنجيز والبراءة هو ثابت سابقاً بلا حاجة إلى الاستصحاب ؟
فإنَّ قصد الأوّل فنقول:- إنَّ الثابت سابقاً هو البراءة العقلية ، يعني من حيث حكم العقل لا شيء عليك وأنه توجد براءة ، أما الذي نثبته بالاستصحاب هو براءة من جهة الشرع ، لأنَّ الاستصحاب دليل شرعي ، فليست إحدى البراءتين هي نفس الأخرى حتى يلزم محذور تحصيل ما هو حاصل ، وإنما الحاصل والثابت بالوجدان سابقاً هو براءة العقلية من باب قبح العقاب بلا بيان بينما الذي نريد أن نثبته من خلال الاستصحاب هو شيء آخر وهو البراءة من خلال الاستصحاب يعني من خلال المدرك الشرعي يعني براءة شرعية ، فليست هذه البراءة الثابتة بالاستصحاب هي عين تلك البراءة الثابتة بحكم العقل حتى يلزم محذور تحصيل ما هو حاصل أو الاثبات من خلال التعبّد لما هو ثابت بالوجدان ، كلا بل الثابت سابقاً بالوجدان هو البراءة العقلية وأما الذي نريد اثباته بالتعبّد هو البراءة الشرعية ، فلا يلزم حينئذٍ تحصيل ما هو حاصل ، ولا يلزم أيضاً محذور الاثبات التعبّدي لما هو ثابت بالوجدان بعدما كانت إحدى البراءتين مغايرة للبراءة الأخرى.
إن قلت:- إنَّ هذا وجيه إذا أثبتنا البراءة السابقة بحكم العقل ، وأما إذا اثبتناها بحكم الشرع - يعني من باب ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) - فإذن كلتا البراءتين هي ثابتة من خلال الشرع ، فعلى هذا الأساس اتّحدت كلتا البراءتين فيلزم محذور تحصيل ما هو حاصل أو الاثبات التعبّدي لما هو ثابت بالوجدان ؟
وفي الجواب نقول:- إنَّ تلك البراءة مغايرة للبراءة الثانية رغم أنهما شرعيتان ، فإنَّ الأولى هي براءة من حيث عدم البيان ، بينما البراءة الثانية هي براءة من حيث بيان العدم ، فصارت أحداهما مغايرة للأخرى وإن اتحدتا في النتيجة.
فإنَّ البراءة الأولى ثابتة من باب ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) يعني مادام لا تعلم فالشيء مرفوع من باب عدم العلم ، فالبراءة ثابتة من باب عدم البيان ، وأما إذا أردنا أن نثبت البراءة بالاستصحاب فالاستصحاب يقول إنه سابقاً لم يكن تنجيز وأنا الآن أقول لك لا يوجد تنجيز ، يعني بيانٌ لعدم الحكم ، فالاستصحاب يقول لا يوجد حكم ، أما البراءة الأولى فليست هي بيان لعدم الحكم وإنما هي براءة من باب عدم بيان الحكم ، وفرق بين البراءتين ، وبالتالي لا يلزم من ذلك محذور تحصيل الحاصل.
وإن كان المقصود أنه يلزم محذور اللغوية:- يعني صحيح أنَّ إحدى البراءتين تغاير الأخرى واحدة من باب عدم بيان الحكم والأخرى من باب بيان العدم - أي سلّمنا بهذا - ، ولكن بالتالي كلا الطريقين وكلتا البراءتين تؤديان إلى شيءٍ واحد وهو البراءة فيلزم من ذلك محذور اللغوية ، إذ لا حاجة إلى طريقين ماداما يؤديان إلى هدفٍ واحد ونتيجة واحدة وهي البراءة فيلزم محذور اللغوية.
والجواب:- إنَّ زيادة المؤمّن وتأكيده شيء مطلوب عقلائياً ، فالإنسان يحصل على مؤمّنين أفضل من حصوله على مؤمّنٍ واحد ، فإنه مع زيادة المؤمّن سوف يطمئن ويرتاح أكثر ، فعلى هذا الأساس لا يلزم محذور اللغوية.
وبهذا اتضح أنَّ ما أفاده الشيخ النائيني(قده) قابل للـأمل والمناقشة.البيان الرابع:- أن يقال: إنَّ الموقف العملي عند الشك في الحجية لا يتغيّر ، أما إذا فرضنا اليقين بعدم الحجية فلو كنّا نتيقّن بعدم الحجية ماذا كنّا نتخذ من موقف ؟ إنَّ ذلك الموقف الذي نطبّقه عند الجزم بعدم الحجية يلزم الأخذ به عند الشك في الحجية ، فجميع المواقف تبقى كما هي ، وهذا معناه أنَّ مشكوك الحجية هو بحكم متيقن عدم الحجية ، والمقصود من ناحية الآثار العملية ، فعملاً يبقى الموقف كما هو ، وخذ مثالاً على ذلك وهو كما لو شككنا في أنَّ السورة واجبة في الصلاة أو لا نتيجة الشك في حجية الشهرة الفتوائية اليت دلت على وجوبها ، فحينئذٍ نقول إنَّ الموقف نفسه لو كنّا نجزم بعدم حجية الشهرة الفتوائية ، وماذا كنا نفعل لو كنّا نجزم بعدم حجية الشهرة الفتوائية والمفروض أنَّ الشهرة الفتوائية دلت على وجوب السورة ؟ ، فبالتالي رغم أنَّ الشهرة الفتوائية ليست حجة ولكن بالتالي نحتمل وجوب السورة فهنا نجري البراءة العقلية أو النقلية ، هذا هو الموقف الأوَّل ، ونقول إنَّ هذا الموقف يأتي بنفسه لو شككنا في حجية الشهرة الفتوائية الدالة على وجوب السورة ، فسابقاً كنا نّجري البراءة العقلية والنقلية والآن نجري البراءة العقلية والنقلية أيضاً ، لأنه بالتالي لا توجد أدلة جزمية على وجوب السورة فنجري البراءة ، فكما نجري البراءة لو جزمنا بعدم حجية الشهرة الفتوائية الدالة على وجوب السورة كذلك نجري البراءة لو دلت الشهرة الفتوائية التي نشك في حجيتها على وجوب السورة ، فالموقف هو هو لا يتغير ، يعني تبقى البراءة.
وإذا كان الموقف هو الاستصحاب - أي استصحاب عدم الوجوب - فيبقى كما هو ، فنقول إنه قبل الاسلام أو في صدر الشريعة لم تكن السورة واجبة والآن كذلك ، هذا إذا كنّا نجزم بعدم حجية الشهرة الفتوائية ، فإذا كنّا نشك في حجية الشهرة الفتوائية ودلت على وجوب السورة فالأمر كذلك فإننا نستصحب عدم وجوب السورة ، فالموقف لا يتغير.وإذا كان عندنا عموم يقول ( كلّ شيء شككت في كونه جزءاً من الصلاة فلا فأت به ) أو يقول ( ائت به ) فهذا الموقف أيضاً يبقى كما هو ، فإنه إذا جزمنا بأن الشهرة الفتوائية ليست حجة ودلت على وجوب السورة فبالتالي وجوب السورة سوف يصير شيئاً مشكوكاً رغم أنَّ الشهرة الفتوائية ليست بحجية ، لكن نشك في وجوب السورة مادام قد دلت عليها الشهرة الفتوائية.ولا تقل:- إنَّ الشهرة الفتوائية ليست حجة فكيف تشك ؟فأقول:- إنَّ هذا لا مانع منه ، فهو مثل خبر الفاسق فإنه ليس بحجة ولكن مع ذلك إذا أخبرنا الفاسق بشيء وقال بأنه واجب فنحن نحتمل وجوبه، فحينئذٍ نطبق ذلك العموم الذي كان يقول ( كل شيء شككت في وجوبه في الصلاة يجب الاتان به ) أو إذا كان يقول ( لا يجب ) فسوف نطبقه ، هذا في حالة الجزم بعدم حجية الشهرة الفتوائية ، وإذا كنّا نشك فنفس الشيء ، فإذا شككنا في حجية الشهرة الفتوائية ودلت على وجوب السورة فنشك في وجوب السورة فنطبّق ذلك العموم.والخلاصة:- إنَّ الأصل هو عدم حجية مشكوك الحجية بمعنى أنَّ المواقف والقواعد التي كنّا نأخذ بها في حالة الجزم بعدم الحجية نفسها نطبقها في حالة الشك في الحجية ، وهذا شيء علمي جيّد ، وهذا هو معنى العبارة المعروفة التي تقول ( مشكوك الحجية بحكم مقطوع عدم الحجية ) فإنها تشير إلى هذا المطلب ، يعني من حيث أنَّ الآثار نفس الآثار نطبقها ، ولعله إلى هذا يشير الشيخ الخراساني(قده) في عبارته حيث قال:- ( ثالثها: إنَّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يرز التعبد به واقعاً عدم حجيته جزماً بمعنى عدم ترتب الآثار من الحجة عليه[1] قطعاً ولا يكاد يكون لاتّصاف بها إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقاً متبعاً )[2] .
وعلى أي حال إنَّ بيان الأصل بهذا الشكل شيء جيّد ، وربما أشار إلى ذلك الشيخ النائيني (قده)[3] [4] أيضاً حيث توجد له عبارة قريبة مما ذكره الشيخ الخراساني(قده).