الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/07/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

بعد الفرغ عن إمكان جعل لظن حجة ودفع شبهة ابن قبة يقع الكلام في مرحلة الوقوع:-والكلام في الوقوع يقع تارة في أنه ما هي الأمارات التي ثبتت حجيتها شرعاً وتحقق التعبد الشرعي بها مثل خبر الثقة والظواهر وغير ذلك ؟ ، وأخرى يقع الكلام لو فرض أننا شككنا أنَّ هذه الأمارة جعلها الشارع حجة أو لا فالأصل ماذا يقتضي إذا عجزنا عن اثبات الحجية أو عن اثبات عدم الحجية ؟ ، فنحن عندنا في باب الماء كلّ شيء إذا شككنا أنه طاهر أو أنه نجس ولم نستطع بالدليل أن نثبت أنه طاهر أو نحس فيوجد عندنا أصل وهو أصل الطهارة أو أصل الحلية ، أما هنا إذا لم يثبت بالدليل حجية الشهرة الفتوائية مثلاً ولم يثبت عدم حجيتها فالأصل ماذا يقتضي ؟فإذن هنا يوجد بحثان في مرحلة الوقوع ، بحث في تأسيس الأصل الأوّلي وهذا بحث أوّل ومثلاً ننتهي فيه إلى أنَّ الأصل عدم الحجية إلا إذا ثبت بالدليل التعبد بهذه الأمارة الخاصة وثبوت الحجية لها ، ثم بعد أن نؤسس الأصل ونقول أيّ أمارة خرجت من هذا الأصل وثبتت حجيتها ؟ فندخل في حجية الخبر وحجية الظواهر وحجية الاجماع وما شاكل ذلك.فإذن المناسب فنياً أن نبحث عن الأصل ، ثم نبحث عمّا خرج منه.

والمعروف أنَّ الأصل يقتضي عدم الحجية ، نعم نسب الخلاف على ما ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل[1] إلى المحقق الكاظمي(قده) وقال إنه ذهب إلى أنَّ الأصل يقتضي الاباحة ، كما ونقل عن بعض[2] أنه ذهب إلى التخيير - وكأنه جعله من دوران الأمر بين المحذورين بين الوجوب والحرمة فلعلة حجة فيجب العمل به ولعله ليس بحجة فيحرم التعبد به - من دون تعيين القائل.

وحينئذٍ يقع الكلام في التخريج الفنّي لهذا الأصل ، يعني لماذا الأصل يقتضي عدم الحجية للأمارة المشكوكة الحجية ؟هناك عدّة وجوه قد تذكر في هذا المجال:-

الوجه الأول:- ما ذكره الشيخ الأعظم(قده)[3] ووافقه عليه السيد الخوئي(قده)[4] وحاصل ما ذكر هو أنَّ المطلوب في الأمارة اسناد مضمونها إلى الشارع ، فحينما يأتي خبر يقول يجب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فمادام هذا الخبر حجة فأنا أسند الوجوب إلى الشارع واستند إلى هذه الأمارة في اثبات الوجوب فأقول هذا واجب شرعاً لأنَّ الخبر دلّ عليه.

فإذن أنا أستند في مقام العمل ، فأنا بمجرد أن أرى الهلال والمفروض أنه يوجد عندي خبر قد دلّ على الوجوب فسوف أرفع يدي وادعو ، فإذن أنا استندت إلى الخبر في مقام عملي وأُسنِد الوجوب وأقول للناس شرعاً يجب أو يستحب الدعاء عند رؤية الهلال لأنَّ الخبر قد دل على ذلك ، فإذن الحجية لها أثران الأوّل اسناد مضمونها إلى الشارع والاستناد والثاني أنا استند إلى هذه الأمارة في مقام عملي باعتبار أنَّ ذلك مستحب شرعاً ، وهذان الأثران لا يمكن أن يثبتا إلا إذا علمت بالحجية وإلا كان هذا نحواً من التشريع وهو محرّم عقلاً ، وكذلك هو محرّم شرعاً وذلك بالآية الكريمة ﴿ قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾ ، فيعدَّ هذا افتراءً ، فإنَّ التشريع هنا افتراء إذا لم يثبت الإذن الشرعي.

ويمكن أن يشكل عليه:-

أوّلاً:- نقول إنَّ المطلوب من حجية الأمارة ما هو فهل المطلوب الاسناد إلى الشرع والاستناد إليها في مقام العمل أو أنَّ المطلوب من حجية الامارة شيء آخر ؟ الجواب:- إنَّ المطلوب منها شيء آخر ، فإنَّ المطلوب من حجية الأمارة أو من الأمارة أن تكون منجّزة ومعذّرة ، فأنا لماذا آخذ بالأمارة ؟ لأنها نجّزت الوجوب الواقعي أو تكون معذّرة ، فالمطلوب من الأمارة ليس اسناد مضمونها إلى الشارع وإنما المهم الذي نحن نريده أنه مادام توجد أمارة فسوف يتنجز عليك استحباب الدعاء عند رؤية الهلال ، فنحن نريد أن نثبت التنجيز والتعذير لا الاسناد والاستناد فإنَّ هذان لا نريد اثباتهما ، والذي يتوقف على العلم هما الاسناد والاستناد إذ من دون العلم يكون الاسناد والاستناد نحو من التشريع المحرّم ، أما إذا أردنا اثبات التنجيز والتعذير فقط فهما لا يتوقفان على العلم بجعل الحجية ولا يلزم بالتالي محذور التشريع.

إن قلت:- أنا حينما تقوم لي الأمارة صحيح أني أريد اثبات التنجيز أو العذير بها ولا أريد اثبات الاسناد والاستناد فإنَّ ذاك ليس بمهم لنا ، فلو كان شخص له هدف في الاسناد والاستناد فهذه قضية خاصة به ولكن نحن هدفنا من حجية الأمارة أن تكون منجّزة ومعذّرة لا أكثر فلا يلزم محذور التشريع المحرّم.

ولكن قد يقول قائل:- إنَّ هذا المقدار أيضاً يلزم منه محذور التشريع المحرّم ، لأنه بالتالي أنت تقول إنَّ هذا الحكم - وهو الدعاء عند رؤية الهلال - منجّز شرعاً بسبب الأمارة ، فبالتالي نسبت التنجيز إلى الشرع فعادت المشكلة فإنَّ هذا نسبة شيء إلى الشارع من دون علمٍ ، فيلزم من ذلك محذور التشريع.

قلت:- إنَّ التنجيز لا يكون ثابتاً إلا عقلاً لا شرعاً فلنلتفت إلى ذلك ، فدائماً وأبداً التنجيز حكم عقلي ، لأنَّ التنجيز هو استحقاق العقوبة على المخالفة ، واستحقاق العقوبة حكم عقلي ، يعني لو كان هذا الخبر مصيباً فأنت تستحق العقوبة على المخالفة ، فالتنجيز والتعذير دائماً وأبداً هو حكم عقلي وليس حكماً شرعياً وإلا يلزم التسلسل ، لأنَّ هذا التنجيز ثابت بحكمٍ شرعي ، وهذا الحكم الشرعي هل هو منجّز أو ليس بنمجّز شرعاً ؟ لابد أن تقول هو منجّز شرعاً ، فإذا صار هذا منجّزاً شرعاً فحينئذٍ هذا التنجيز الشرعي الثابت بحكم الشرع أيضاً نسأل عنه هل هو منجز شرعاً أو لا ... وهكذا فيلزم التسلسل ، إنما التنجيز دائماً وأبداً يكون حكماً عقلياً.

ولكن قد يقول قائل:- إذا كان حكماً عقلياً فأيضاً يلزم التسلسل ، فهذا الحكم العقلي منجّز بحكم العقل أو لا .... فيلزم التسلسل.

ولكن نقول:- كلا لا يلزم التسلسل ، فإنَّ هذا الحكم العقلي هو بمعنى الادراك والكشف لا بمعنى التأسيس ، والشارع دائماً حكمه هو ادراك ما هو ثابت في الواقع لا إثبات ما ليس بثابت في الواقع ، فوظيفته هي الادراك والكشف لا التأسيس والتقنين الابتدائي ، فالعقل يقول الأربعة زوج والظلم قبيح ، فقبيح يعني هو يستكشف ما هو ثابت في الواقع ، والزوجية يستكشف ثبوتها في الواقع لا أنه هو الذي يثبت حكماً.

والمهم أننا نريد أن نقول إنَّ التنجيز والتعذير دائماً يكون أمراً عقلياً ولا يكون أمراً شرعياً حتى يأتي هذا الاشكال.

ثانياً:- حتى لو سلمنا بأنَّ أثر الحجية هو الاسناد والاستناد وليس التنجيز والعذير ، ولكن نقول إنَّ الاسناد والاستناد هما أثران للعلم بالحجية لا لنفس الحجية وإلا يلزم محذور التشريع المحرّم ، فإذا كانا أثرين للعلم بالحجية فمعنى ذلك أنَّ الحجية لا تدور مدار جواز الاسناد والاستناد ، فربما تكون الحجية ثابتة واقعاً ولكن لا يجوز الاسناد والاستناد من ناحية أنه لا علم لك بالحجة ، فإنَّ العلم بالحجية يجوّز الاسناد والاستناد لا نفس الحجية ، فعدم جواز الاسناد والاستناد عند الشك في الحجية لا يعني أنَّ هذه الأمارة ليست بحجة ، كلا بل لعلّها حجة واقعاً وإنما لعدم علمي بالحجية لا يجوز الاسناد والاستناد ، وهي نكتة ظريفة.


[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج1، ص128.
[2] فرائد الأصول، الأنصاري، ج1، ج1، 129.
[3] فرائد الأصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص125- 126.
[4] مصباح الأصول، الواعظ، ج2، ص128- 129.