الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/07/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

وقبل أن نذكر الجواب المناسب عن شبهة ابن قبة نشير إلى قضية:- وهي أنه ما هي النكتة في استحالة اجتماع حكمين ؟

قد يخطر إلى الذهن أو ربما كانت توحي به بعض التعابير السابقة وهو أنّ النكتة في استحالة اجتماع حكمين متضادين أو متماثلين هي اجتماع الملاكات المتضادة أو المتماثلة فيلزم اجتماع مفسدة ومصلحة مثلاً والشيء الواحد لا توجد فيه مصلحة ومفسدة ، ووجه الاستحالة هو أنه يلزم اجتماع الملاكين المتضادين ، فبالتالي مادام توجد حرمة واقعية فهنا توجد مفسدة ومادام توجد اباحة ظاهرية فهنا توجد مصلحة والشيء الواحد لا يتحمّل الضدّين ، هذه هي نكتة استحالة اجتماع الحكمين المتضادين.وهكذا بالنسبة إلى الحكمين المتماثلين يلزم اجتماع مصلحتين أو مفسدتين ، وحيث إنَّ المصلحة والمفسدة من الأمور الحقيقية والأمور الحقيقة لا يمكن فيها اجتماع المثلين فيعود المحذور ، هكذا كنّا نقول أو كانت العبارات توحي بذلك.

والآن نقول:- لو كنا نحن وهذا المقدار فيمكن الجواب عنه بأنَّ اجتماع المصلحة والمفسدة شيء عقلائي وليس شيئاً مستحيلاً ، فبعض من الأفعال التي نواجهها فيها مصلحة وفيها مفسدة ولكن باختلاف الجهة والعنوان وهذا شيء ليس مستحيلاً ، فمثلاً شخص يريد أن يتزوّج بالثانية فهذا فيه مصلحة وأيضاً في حق بعض الناس فيه مفسدة فاجتمعت المصلحة والمفسدة ولكن المصلحة من زاوية والمفسدة من زاوية أخرى وهذا لا شيء فيه ، وكما لو أردت السفر فسفري فيه مصلحة من زاوية وفيه مفسدة من زاوية أخرى ، فاجتماع المصلحة والمفسدة شيء واقع لا أنه شيء ممكن فقط ، بل هو ممكن وواقع في حياتنا كثيراً.

إذن النكتة في استحالة اجتماع الحكمين ليست هي لزوم اجتماع ملاكين مصلحة ومفسدة مثلاً فإنَّ هذا ثابت في حياتنا جزماً ، وإنما النكتة في الاستحالة هي أنه حينما تجتمع مصلحة ومفسدة فإن كانتا متساويتين بدرجةٍ واحدة فمن المناسب في مثل هذه الحالة ليس إنشاء حكمين وإنما المناسب التخيير لا جعل حرمة وإباحة ، بل نقول له ( أنت مخير ) ، لأنَّ المصلحة مساوية للمفسدة ، فالأب إذا لاحظ أن سفر ابنه يشتمل على مصلحة ويشتمل على مفسدة أيضاً ولكن بالتساوي فمن المناسب عقلائياً أن يقول له ( أنت مخيّر بين السفر وبين البقاء ) لا أنه ينشئ حكمين فإنَّ هذا ليس عقلائياً ، وإذا كانت المصلحة أقوى فالأب ينشئ حكماً واحداً فيقول له ( اذهب ) ، وإذا كانت المفسدة أقوى فسوف ينشئ حكماً واحداً فينهاه عن السفر ، فإذن انشاء حكمين لا يمكن أن يتصوّر.فإذن نبقى نتساءل أنه كيف ينشئ المولى حكمين والحال أنه على أساس ما ذكرناه لا معنى لإنشاء حكمين لأنه يقارن بين المصلحة والمفسدة وبالتالي إما أن يكون هناك تساوياً فيحكم بالتخيير أو تكون المصلحة أقوى فيحكم بالوجوب أو تكون المفسدة أقوى فيحكم بالحرمة أما أنه يجعل حكمين فهذا لا يتصوّر ، فعلى هذا الأساس عاد التساؤل ، وهو أنه كيف نتصوّر ثبوت حكمين أحدهما ظاهري والآخر واقعي بعد أن فرضنا أنَّ الملاكات بعد الموازنة والمقارنة بينها يثبت ملاكاً واحداً فإنَّ كان متساوياً فالتخيير أو كانت أرجحية ملاك المصلحة فوجوب أو بالعكس فحرمة ، فكيف يجتمع الاثنان حتى تثبت حرمة وإباحة ، فكيف نتصوّر هذا ؟ فإذن هذا التساؤل يأتي وسوف تأتي المشكلة من هذه الناحية.

ولحل هذه المشكلة نقول[1] :- إنَّ هذا الاشكال يتم فيما لو فضنا وجود ملاكين فالإشكال هنا يكون تاماً ، إذ نقول للمولى إنَّ هذان الملاكان بعد المقارنة بينهما فهما إما إن يكونا متساويين فاجعل التخيير ولا معنى لجعل حكمين ، أو أنَّ المصلحة هي الغالبة فاجعل الوجوب ، أو أنَّ المفسدة هي الغالبة فاجعل الحرمة ، فكيف تجعل حكمين ؟!! فيمكنه أن يجيب ويقول: إنَّ ذلك لا لوجود ملاكين حتى يأتي هذا الاشكال بل الملاك واحداً ، فلا يوجد ملاكان متعددان.

وحينئذٍ نقول في هذا المجال إنَّ قضية الأحكام الظاهرية مع الأحكام الواقعية قضية عقلائية قبل أن تكون شرعية ، فمثلاً إذا كنت أعلم بأنه سوف يأتوني ضيوف في هذا اليوم فأقول للأهل اطبخوا الطعام ، فإذا كنت أعلم بأنهم لا يأتون فسوف لا آمر بإعداد الطعام ، أما إذا شككنا بأنهم يأتون أو لا فهنا سوف ألاحظ الوضع فقد يفترض أني أقول ( اطبخوا الطعام ( وذلك حفاظاً على ماء وجهي ، ففي مثل هذه الحالة لأجل قوّة المحتمل أو قوة الملاك الواقعي وهو الحفاظ على ماء وجهي أقول ( اطبخوا مادمتم تشكون أنَّ الضيف سيأتي ) ، وقد يفترض أني أقول إنَّ هذا الطبخ الزائد هو تبذير فأقول في حالة الشك ( لا تطبخوا الطعام ) ، فهنا يوجد حكم واقعي وهو أنه لو علمنا أنهم سيأتون فيوجد حكم واقعي وهو أنه لابد من الطبخ وهذا مفروغ عنه ، إنما الكلام فيما لو شككنا أنهم يأتون أو لا ففي مثل هذه الحالة إذا رأيت أنَّ الأنسب هو الحفاظ على ماء الوجه فتقول لهم اطبخوا ، فالأمر بالطبخ حالة الشك هل هو ناشئ من ملاك آخر غير الملاك الواقعي ؟ كلا ، بل هو ناشئ من الملاك الواقعي ، فلقوّة ذلك الملاك الواقعي تصير هذه القوة سبباً للحكم بلزوم الطبخ ، وإذا فرض أنَّ الملاك الواقعي لم يكن بهذه الدرجة لأنه مشوبٌ بأمور أخرى كالتبذير والتلف فتقول لهم لا تطبخوا الطعام ، فهذا النهي هو لأجل ضعف ذلك الملاك الواقعي.فإذن لا يوجد ملاكان حتى يلزم اجتماع ملاكين وحتى نقول بالتالي إن تساويا نجعل حكماً واحداً وهو التخيير وإن كان هذا أقوى دون ذاك فنجعل الحرمة بلا إباحة أو الاباحة بلا حرمة ، كلا بل الملاك واحداً وهو الملاك الواقعي لا غير وهذا الحكم الذي يجعل حالة الشك ليس له ملاك آخر في مقابل الملاك الواقعي حتى يأتي الاشكال ، كلا بل هو الملاك الواقعي ولكن مرّة يكون قوياً جداً فينشأ لزوم الطبخ ، ومرة يكون بالعكس فبالعكس ، وهذا ثابت عقلائياً.ونفس الشيء يمكن أن يقال شرعاً ، فالله عزّ وجل حينما شرّع حرمة الخمر فهذه حرمة واقعية ولكن حالة الشك كيف هي ؟ إنَّ المولى يلاحظ أنه يوجد ملاك واقعي لحرمة الخمر ويوجد أيضاً ملاك واقعي لإباحة الماء - غير الخمر - ، فإذا فرض الاشتباه ففي مثل هذه الحالة إذا كان الملاك الواقعي للخمر أقوى من الملاك الواقعي لحلّية الماء فيجعل الحرمة ، وإذا كان ذاك الأقوى فيجعل الاباحة ، وإذا تساويا فيجعل التخيير الذي مرجعه إلا الاباحة.فإذن لا يوجد للحكم الظاهري ملاك آخر في مقابل ملاك الحكم الواقعي ، وإنما فقط يوجد ملاك الحكم الواقعي لحرمة الخمر وهي المفسدة وملاك واقعي لإباحة الماء والحلّ وهي المصلحة وحينئذٍ يقارن المولى بين الملاكين الواقعيين وينشئ حكماً على طبق ذلك ، فالقضية قضية تزاحم بين الملاكات الواقعية لا بين ملاك الحكم الواقعي وملاك الحكم الظاهري ، وعقلائياً نفس الشيء فإنَّ الطبخ للضيف له ملاك واقعي والتبذير أيضاً له ملاك واقعي ، فإذن يوجد ملاكان واقعيان فيقارن بينهما عقلائياً ، فكما أنَّ الأمر كذلك في القضايا العقلائية كذلك في القضايا الشرعية ، فإذن لا يوجد للحكم الظاهري ملاك في مقابل الملاك الواقعي حتى يلزم من ذلك المشكلة - وهي اجتماع ملاكين - ، وإنما الموجود هو الملاكات الواقعية فقط وهي بينها تتزاحم والمولى نتيجة التزاحم يحكم إما بالحرمة فيجعل أصل الاحتياط أو يحكم بالإباحة فيجعل أصالة الاباحة مثلاً.هذا كلّه بالنسبة إلى شبهة ابن قبة والجواب عنها وقد اتضح من خلال هذا كلّه أنَّ جعل الحكم الظاهري وتشريعه لا مشكلة فيه بل هو ممكن.

[1] هذا هو الجواب المختار لحل شبهة ابن قبة.