الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/07/13
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث الظن.
الجواب الثامن:- ما ذكره السيد الخوئي(قده)[1] وحاصله:- إنه لا تنافي بين الحكم الظاهري والواقعي ، فإن التنافي إما أن يكون من حيث نفس الحكم بما هو حكم بأن يقال إذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة والحكم الظاهري هو الاباحة فيلزم اجتماع المتنافيين ، أو المنافاة من ناحية الملاك - يعني المصلحة والمفسدة - فيلزم اجتماع مصلحتين أو مفسدتين أو مصلحة ومفسدة ، وجوابه:- إنَّ مصلحة الحكم الظاهري قائمة بأصل الجعل بينما مصلحة الحكم الواقعي قائمة بمتعلقه ، فمثلاً الخمر حرمته الواقعية ناشئة من مفسدة شرب الخمر ، وأما الحكم الظاهري - أعني الاباحة والرخصة الظاهرية - فالمصلحة قائمة بنفس جعل الاباحة والرخصة لا في المتعلّق ، فاختلف بذلك مركز ملاك الحكم الظاهري عن مركز ملاك الحكم الواقعي ، فلم يجتمعا في شيءٍ واحد ، هذا من هذه الناحية ، أو أن تكون المنافاة من حيث الامتثال ، لأنَّ الحرمة امتثالها يكون بالترك ، يعني الحرمة تسحب المكلف إلى الوراء فامتثاله يكون بالترك والانزجار والانسحاب إلى الوراء إن صح التعبير ، بينما الرخصة امتثالها يكون لا بالانزجار والترك وإنما هو مخيّر ، فيحصل بينما تنافٍ من حيث الامتثال ، فالحرمة الواقعية تزجر بنحو الجزم بينما الاباحة الظاهرية تعطي اطلاق العنان ، ومن الواضح أنه توجد منافاة بين اطلاق العنان وبين الزجر والانزجار ، فالمنافاة هي من حيث عالم الامتثال.
وجوابه:- إنَّ هذه المنافاة تتحقق إذا كنت أعلم بكلا الحكمين فإذا كنت عالماً بهما سوف تأتي هذه المنافاة ، ولكن من الواضح إذا كنت عالماً بالحكم الواقعي فلا يعود مجال للحكم الظاهري ، فإنَّ الحكم الظاهري يأتي فيما لم أكن عالماً بالحكم الواقعي ، فالحكم الواقعي إذا لم أعلم به فليس له امتثال آنذاك حتى تقول إنَّ هذا الامتثال يتنافى مع امتثال الحكم الظاهري ، وإنما الذي له امتثال هو الحكم الظاهري فقط أما الحكم الواقعي فهو مجهول فلا امتثال له حتى تحصل المنافاة بين الامتثالين ، فإذن ارتفعت المنافاة ، فإنَّ مجال المنافاة إما نفس الحكم أو الملاك أو الامتثال وفي الثلاثة رفعنا المنافاة ، ففي عالم الحكم نفسه قلنا هو اعتبار ولا محذور في اجتماع الاعتبارين المتنافيين ، وأما من حيث الملاك فقد قلنا إنَّ ملاك الحكم الظاهري هو في أصل الجعل وملاك الحكم الواقعي في المتعلّق فلم يجتمع الملاكان في شيء واحد ، وأما بلحاظ عالم الامتثال فالمفروض أنَّ الحكم الواقعي ليس له امتثال إذ هو مجهول ، إذ لو لم يكن مجهولاً فلا مجال للحكم الظاهري ، لأنَّ مجال الحكم الظاهري هو في حالة كون الحكم الواقعي مجهولاً ومشكوكاً فإذا لم يكن كذلك فالحكم الظاهري ليس موجوداً ، فحينما نفترض وجود حكم ظاهري يعني لا يوجد حكم واقعي، فلا منافاة من حيث عالم الامتثال.نلفت النظر إلى قضية:- وهي أنه(قده) استعان ببعض المصطلحات ، وقد قلنا إنَّ هذه المصطلحات ليس من المهم التمّسك بها بل المهم بيان المطلب ، أما المصلحات التي ذكرها هنا فلا بأس بها ، فهو عبّر عن المنافاة من حيث الملاك بالمنافاة من حيث المبدأ وعبّر عن المنافاة من حيث الامتثال بالمنافاة من حيث المنتهى ، والمناسب في تعبيره هكذا هو أنَّ المبدأ للحكم وبداية الحكم تصير من الملاك ، فالملاك مبدأ الحكم وبدايته فقال المنافاة إما من حيث المبدأ وإما من حيث المنتهى ، فإنه إذا تم الحكم يأتي الامتثال فالامتثال نهاية مرحلة الحكم فعبّر عنه بـ( من حيث المنتهى ) ، وسوف نصوغ المطلب الذي ذكره بصياغة أخرى فنقول:- ( لا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي ، إذ المنافاة إما من حيث نفس الحكم أو من حيث المبدأ - أي مبدا الحكم - أو من حيث المنتهى ، أما من حيث نفس الحكم فهو اعتبار ولا محذور في اجتماع الاعتبارين المتنافيين ، وأما من حيث المبدأ أعني الملاك فملاك الحكم الظاهري في نفس الجعل وملاك الحكم الواقعي في المتعلق ، وأما من حيث المنتهى - يعني عالم الامتثال - فلا منافاة فإنَّ الحكم الواقعي لابد وأن نفترضه مجهول وإلا لم تصل النوبة إلى الحكم الظاهري ، ومادام مجهولاً فلا يوجد امتثال لتحصل المنافاة بينهما ).
ومن خلال هذا اتضح أنَّ السيد الخوئي(قده) له جوابان عن إشكال اجتماع المثلين أو الضدين:-الجواب الأول:- إنه فسّر الحجية بتفسير استاذه النائيني(قده) حيث فسّرها لا بجعل الحكم المماثل بل بجعل الطريقية والعلمية.
الجواب الثاني:- لو تنلنا وقلنا إنَّ الحجية لا تعني الطريقية والعلمية وقلنا بأنَّ مفادها جعل الحكم المماثل فلنا جواب وهو أن نقول لا منافاة ، إذ مواطن التنافي ثلاثة ولا منافاة بلحاظها جميعاً كما أوضحنا.
والجواب:-أوّلاً:- إنه ذكر ( أنَّ الحكم مجرّد اعتبار ) ، ونحن نقول صحيح هو مجرد اعتبار ، ثم قال ( ولا تنافي بين الاعتبارين ) ، ولكن هنا نقول: صحيح أنه لا منافاة بين الاعتبارين المتنافيين ولكن لا معنى لصدورهما من المولى الحكيم بأنَّ يجعل المولى الحكيم اباحة وحرمة فإنَّ هذا أمراً ليس عقلائياً ، نعم لا توجد استحالة عقلية فهذا ليس اجتماعاً للنقيضين أو للضدّين لأنهما مجرّد اعتبار ولكن هذا لا يصدر من العاقل وهو لغوٌ.
اللهم إلى أن تدافع وتقول:- إذا كانت هناك مصلحة في نفس الجعل فلا محذور في ذلك ، فأجعل الاباحة لمصلحة في أصل الجعل وأجعل الحرمة لوجود مصلحة في المتعلّق ، فلأجل هذا جمعاً بين المصلحتين اللتين ليستا متنافيتين أنا أجعل اباحة وأجعل حرمة.
قلت:- إذا كانت توجد مصلحة في الاباحة ومصلحة في جعل الحرمة فعليك أن تحكم بالتخيير لا أن تحكم بالإباحة وبالحرمة ، بل قل أنت مخيّر بين الفعل والترك مادام توجد مصلحة في الحرمة - أي في الترك - ومصلحة موجودة في الاباحة ، ، لا أنه يقول له افعل اترك أو اترك أفعل فإنَّ هذا لا يفعله العاقل ، بل قل أنت مخيّر ، وسوف يصير حكماً ثالثاً لا هو إباحة ولا هو حرمة وإنما يكون تخييراً ، فإذن حتى لو أدخلنا المصلحة في أصل الجعل مع ذلك صدور حكمين من العاقل يمكن أن يقال إنَّ فيه حزازة من هذه الناحية التي أشرنا إليها.
ثانياً:- هل يمكن أن نتصوّر عقلائياً وجود مصلحة في أصل الجعل لا في الفعل أو لا ؟ إنه لا يمكن أن يتصوّر ذلك عقلائياً ، يعني حينما أقول ( جعلتُ الاباحة ) فهنا توجد مصلحة في هذا الجعل أما أنك تفعل أو تترك فهذا ليس فيه مصلحة ، إنَّ هذا لا يتصوّر عقلائياً ، وحتى في الأوامر الامتحانية ففيها لا توجد مصلحة في أصل جعل الأسئلة وإنما المصلحة موجودة حيث يلحظ الخارج وماذا تصنع أنت ، فعملك له مدخلية ، أما هنا فالمصلحة تكون في أصل الجعل وبالتالي لا يلزم العبد الامتثال لأنَّ الفعل ليس فيه مصلحة وإنما المصلحة موجودة في أصل الجعل فقط ، فإذن يمكن أن يقال نحن لا نتصوّر حكماً من هذا القبيل بحيث تكون مصلحته في أصل الجعل ، يعني في عالم العقلاء عادةً لا توجد مصلح في أصل الجعل ، إلا إذا افترضنا أنَّ إنساناً سفيهاً يريد أن يبرز نفسه ويشبع رغبته النفسية فيصدر أحكاماً من هذا القبيل ، كما أنه لو تصورناه لا يجب امتثاله لأنَّ العفل ليس فيه مصلحة.
إذن السيد الخوئي(قده) حيتما لو أراد أن يأتي بحلٍّ وفرضية فلابد أن تكون مقبولة ، فافتراض المصلحة في أصل الجعل ليست عقلائية ، وإذا كانت عقلائية فلازمه أنه لا يلزم العبد الامتثال وهذا في حكم عدم الحكم ، وقد قلنا إنَّه توجد اشارة إلى فكرة المصلحة في أصل الجعل في كلام الشيخ الخراساني(قده) ، ففي الجواب السابع المتقدم توجد عنده إشارة إلى هذا المعنى وقد قلنا سيأتي الردّ والتعليق عليه عند ذكر ما أفاده السيد الخوئي(قده) ، فاصل فكرة المصلحة في أصل الجعل هي ثابتة في كلام صاحب الكفاية(قده) والتعليق الذي يرد عليه هو ما أفدناه.