الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/07/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

وقبل هذا ذكر جواباً آخر وحاصله:- نقول لنلتزم بأنَّ الحكم الظاهري طريقي والحكم الواقعي حقيقي ، وطريقي يعني لا توجد مصلحة في المتعلّق وإنما المصلحة موجودة في نفس الحكم الظاهري[1] ، فإذا كان الحكم الظاهري يقتضي حلّية الشيء مثلاً فالمصلحة موجودة في جعل الحلّية[2] لا في حلّية الحيوان التي هي مؤدّى الأصل[3] ، فالمصلحة ليست في المتعلّق - أي المؤدّى - بل في أصل التشريع إن صحّ التعبير ، فهو طريقي بهذا المعنى ، وأما الحكم الواقعي فهو حقيقي ، يعني أنَّ المصلحة والمفسدة في المتعلّق ، فإذا فرض أنَّ الحكم الواقعي كان يقول ( يحرم الخمر ) فالمفسدة أو المصلحة موجودة في تناول الخمر أي في المتعلّق لا في أصل جعل الحكم بالحرمة ، بل هي موجودة في الشيء المحرّم لا في أصل جعل الحرمة ، بخلافه في الحكم الظاهري فإنَّ المصلحة هي في أصل جعل الحلّية مثلاً ، فالحكم الظاهري طريقي بمعنى أنه ناشئ عن مصلحة في نفسه ، بينما الواقعي حقيقي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في المتعلّق .

وكيف تنحلّ المشكلة فإنه لم يبين ذلك ؟

نقول:- إنه بالتالي لا يلزم اجتماع مصلحتين أو اجتماع مصلحة ومفسدة لأنَّ أحد الملاكين قائم بالمتعلّق وهو ملاك الحكم الواقعي والملاك الثاني قائم بأصل الجعل في الحكم الظاهري فاختلف متعلّق المصلحة والمفسدة بين الحكمين ، ففي أحدهما متعلّق المصلحة والمفسدة هو المتعلّق وفي الآخر هو نفس الجعل ونفس الحكم بالحلّية فلم يجتمعا ، وبذلك انحلت المشكلة[4] .

ومن خلال هذا كلّه اتضح أنَّ لصاحب الكفاية(قده) ثلاثة أجوبة عن شبهة ابن قبة:- الجواب الأوّل هو جعل الحجية بجعل المنجّزية أو المعذّرية لا بجعل الحكم المماثل حتى يلزم اجتماع حكمين فإنَّ المنجزية والمعذرية ليست حكماً فلا يلزم اجتماع حكمين ، والثاني هو تفسير الفعلية في الحكم الواقعي حينما نقول الحكم الواقعي يمرّ بمراتب أربع ، والثالثة منها قلنا هي الفعلية ونفسّر الفعلية بالفعلية غير المخضة ، فهي ليست فعلية محضة وإنما نصف فعلية ، يعني نقول الحكم الواقعي لا يوجد على طبقة ارادة وكراهة ولكن لو عُلِم به لتنجّز ، والثالث هو إنَّ الحكم الظاهري طريقي يعني أنَّ المصلحة قائمة في أصل الجعل بينما الواقعي حقيقي والمصلحة قائمة في المتعلّق لا في أصل الجعل ، هذه ثلاثة أجوبة ، والجواب الأوّل تقدم فيما سبق.

والآن نأتي إلى الجواب الثاني الذي ذكره:- وهو تفسير الفعلية بنصف الفعلية المحضة يعني لا توجد ارادة وكراهة على طبق الحكم الواقعي ولكن لو علم به لتنجّز ، فهل هذا تام أو لا ؟

إنه يرد عليه:-

أوّلاً:- إنه قال إنَّ الحكم الواقعي ليس على طبقة ارادة وكراهة ، ولكن نقول: إنَّ هذا تفريغٌ للحكم عن روح الحكم وعن حقيقة الحكم وابقاؤه قشراً بلا لب ، فإذا قلنا أنَّ الحكم الواقعي لا توجد فيه إرادة مولوية وأنَّ المولى لا يريد المتعلّق ولا يكرهه فهذا ليس بحكم ، وتسميته بالحكم ليس له أساس ، فإذن لا يوجد عندنا حكم واقعي وإنما هو اسم فقط.

ثانياً:- إنه ذكر أنَّ مراحل الحكم أربعة ، ونحن نقول له لنرفع المرحلة الأولى والرابعة ، يعني نرفع مرحلة الاقتضاء - وهي المصلحة والمفسدة - لأنَّ هذه مقدّمة للحكم ، فالحكم مقدمته أن تكون هناك مصلحة ومفسدة ، وكذلك نرفع المرحلة الرابعة وهي مرحلة التنجّز لأنه في الحقيقة بعد ثبوت الحكم وانتهاءه فمن متفرّعاته ونتائجه هو هذه المرحلة لا أنها دخيلة في أصل الحكم ، وهذا ليس إشكالاً مهماً وإنما هو إشكال في الترتيب والتنظيم ، والمهم هو أنه هناك إنشاء وفعلية ، والفعلية فسّرها بأن تحدث إرادة وكراهة ، وتفسير الفعلية هكذا محل إشكال، يعني قبلاً يوجد إنشاء ثم تمرّ فترة زمنية ثم تصير ارادة وكراهة إذا تحقق الموضوع والشروط ، هكذا يريد أن يقول ، يعني إذا قال ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾ والآن لا يوجد مستطيع في الدنيا فالآن يوجد جعل وإنشاء فقط ، كما أنه لا توجد ارادة للحج من قبل الله تعالى ، وإنما هو يريدها إذا تحققت الاستطاعة للشخص ، فإذا تحققت الاستطاعة فسوف يصل الحكم إلى مرحلة الفعلية فتحدث ارادة للمولى حين تحقق موضوع الوجوب وهو الاستطاعة ، أليس هذا مقصوده ؟ كما أنَّ هذا المعنى هو الموجود في ذهننا أيضاً ؟ ، نعم ولكن هذا خلاف الواقع ، فإن قضية مراتب الحكم هي قضية عقلائية قبل أن تكون شرعية ، فالعقلاء في المجلس الوطني مثلاً يشرّعون وقوانين منها قانون ( كلّ من بلغ سن الثمانية عشر يلزم أن يخدم العلم ) ، فهذا جعلٌ ولكن الفعلية تحدث حينما يصير عمر هذا الانسان ثمانية عشر عاماً فتحدث آنذاك ارادة من قبل النواب المشرّعين في المجلس ، أليس هكذا تريد أن تقول ؟ فإذا بلغ الشخص سنَّ الثمانية عشر ولكن النواب كانوا نائمين فهل لا يصير الحكم فعلياً ؟!! كلا إنه صار فعلياً ، فعلى رأي صاحب الكفاية(قده) الذي قال إنَّ فعلية الحكم بالإرادة والكراهة يلزم أنه إذا كان المولى نائماً فسوف لا يصل الحكم إلى مرحلة الفعلية ، ولا تقل: إنَّ هذا في المولى العرفي أما الله عزّ وجلّ فليس كذلك ؟ ولكن نحن دفعنا هذا قبل ذلك حيث قلنا: إنَّ مراتب الحكم عملية عقلائية قبل أن تكون شرعية ، فعليك حلّها عند العقلاء.

فإذن الصحيح هو أنَّ الفعلية لا بمعنى حدوث الارادة والكراهة ، بل يلزم محذور ثانٍ وهو أنه يلزم حدوث المعلول متقدماً عن العلّة ، فكيف أنَّ العلة تحدث سابقاً والآن تحدث الارادة والكراهة بلا علّة فلعل هذا تأخّر العلّة عن المعلول وحصول فصلٍ بين العلّة والمعلول، يعني أنَّ تصوّر هذا المعنى صعب ، فالأنسب أنَّ الفعلية هي مجعولة من البداية ، يعني أنَّ المجلس الوطني حينما يشرّع خدمة العلم فهو يشرّع الفعلية ويجعلها عند بلوغ سنّ الثامن عشر ، يعني من بلغ سنَّ الثامن عشر فأنا من الآن أجعل الفعلية في حقه ، فالفعلية مجعولة مع الجعل ، ولعلك تقول: ما هي هذه الفعلية ؟ ، يعني حينما يصير عمره ثمانية عشر سنة ماذا يحدث لأنه صارت عليه خدمة العلم وهي مجعولة بنفس الجعل السابق فماذا يحدث ؟ نقول: إنه لا يحدث أمر حقيقي وإنما هذا مجرّد اعتبار عقلائي ، فهم الآن يعتبرونه خدمة العلم صارت واجبة عليه ، فهو مجرّد اعتبار ، فنواب المجلس الوطني ينشئون هذا المعنى ( نعتبر وجوب الخدمة على الشخص البالغ سن ثمانية عشر سنة ) ، فيجعلون الفعلية من الآن ، والفعلية ليست وجوداً حقيقياً وإنما هي مجرّد اعتبار ، فمسألة ارادة وكراهة يلزم أن تحذف من الحساب فإنَّ واقع الحال الفعلية هي مجرّد اعتبار ينشأ بمجرّد الجعل ، فإنَّ الجاعل يجعل الفعلية حالة تحقّق هذا الشرط لا أكثر من ذلك ، والفعلية ليست وجوداً حقيقاً وإنما هي مجرّد اعتبار.

[1] يعني في أصل الجعل إنَّ صح التعبير لا في المجعول والمتعلق والمؤدى.
[2] أي في أصل الجعل.
[3] وهي أنَّ هذا الحيوان حلال.
[4] كفاية الأصول، الآخوند، ص277 – 278. وايضاً ذكره قبل ذلك في ص266 – تحت عنوان الأمر الرابع.