الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/07/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

الجواب الخامس:- ما ذكره السيد الحكيم(قده) في حقائق الأصول عن استاذه المحقق العراقي(قده)[1] وقال أنه الأحق في الجواب ، وحاصله:- إنَّ وجود الواجبات كالصلاة والصوم في الخارج إذا تعلقت المصلحة بذلك وأرادها المولى يكون وجودها في الخارج من المكلف فهذا يحتاج إلى ثلاثة أمور الجعل[2] وعلم المكلف بذلك ووصوله إليه[3] وإرادة المكلف ، فإذا كان يوجد جعل وقد وصل إليه الجعل ولكن لا توجد عنده ارادة فلابد وأن يحرّك المولى ارادة المكلف.

وحينئذٍ نقول:- تارة يفترض أنَّ المولى يرى المصلحة في وجود الصلاة من ناحية جميع هذه الأمور الثلاثة فحينئذٍ يحقّق هذه الأمور الثلاثة ، وكيف يحققها ؟ أما الأوّل فيمكن أن يشرّع الصوم مثلاً ﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ ، وكذلك الأمر الثاني فهذا سهل وذلك أن يقول من خلال القرآن الكريم ﴿ أقيموا الصلاة ﴾ فهنا حصل الوصول ، وأما تحريك ارادة المكلف فهذا يحصل بترغيبه بالجنة وترهيبه بالنار مثلاً ، فتتحرك أرادة المكلف وتكون هذه الارادة قابلة لأنَّ تنشط.

وأما إذا فرض أنه رأى المصلحة موجودة من أحد الجوانب ولكنها ليس موجودة من الجانب الثاني - يعني رأى أنَّ المصحة موجودة من جهة التشريع ولكن من جهة الوصول ليست موجودة - ففي مثل هذه الحالة يشرّع الوجوب كحكم واقعي ولكن لا يوصله إلى المكلف بل يوصل الرخصة في الترك مثلاً فيقول إذا شككت ولم تعلم فقد رفع عن أمتي ما لا يعلمون ، فيجعل الرفع والرخصة والاباحة في الترك ، ولا منافاة بين تشريع الوجوب لأنه من الناحية الأوّلى وبين تشريع حكم آخر من ناحية الوصول ، فإن المنافاة إنما تكون ثابتة فيما إذا كان يجعل مطلبين متعاكسين من جهةٍ واحدة ، يعني من جهة الحكم الواقعي كحكم واقعي يشرّع الوجوب ويشرّع الرخصة في الترك كحكم في الواقع فهنا توجد منافاة ، أما إذا فرض أنَّه من ناحية التشريع يشرّع الوجوب ومن ناحية الإعلام والوصول يشرّع الرخصة فلا منافاة في البين ، فإن المنافاة تثبت فيما إذا فرض أنَّ الاختلاف حصل من ناحية واحدة لا من ناحيتين مختلفتين ، ونظّر لذلك فالأمور التكوينية فقال كما إذا فرض أنك أردت أن تنشئ بيتاً ، فالبيت يحتاج إلى جدران وإلى سقف ، فقد تقتضي المصلحة وارادتك ذلك فحينئذٍ تنشئ الجدران وكذلك السقف ، أما لو فرض أنَّ المصلحة لا تقتضي تشييد السقف وذلك لاحتمال نزول سعر الحديد ومواد بناء السقف ، فهنا الجدران سوف تشيدها أما السقف فسوف تبقيه ولا منافاة هنا بين أن انشئ الجدران دون السقف ، نعم انشاء الجدران وعدم انشائها هذا تناقض وهو لا يمكن ، أما انشاء الجدران من دون انشاء السقف لا منافاة بينهما ، فكما لا منافاة في الأمور التكوينية أيضاً لا منافاة في الأمور الاعتبارية كالصلاة مثلاً ، فأنا أنشئ الوجوب الواقعي - التشريع - أما بالنسبة إلى الوصول فلا أوصل الوجوب وإنما أوصل الرخصة ، فأجعل الرخصة عند الشك وأقول ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، فالحكم الظاهري يصير هو الرخصة والحكم الواقعي هو الوجوب ، وهذا من ناحيتين متخلفتين فلا تمانع ، إنما يكون التمانع والتنافي فيما إذا كان ذلك من جهة واحدة.

والجواب:- يظهر أنَّ الشيخ العراقي(قده) كان يعيش مشكلة اجتماع حكمين وأنه كيف يجتمع حكمان وجوب ورخصة فإنهما متنافيان ، فيكف يجتمعان على الصلاة مثلاً ، فدفع ذلك بما ذكره فقال إنَّ الوجوب هو من ناحية الأمر الأوّل - اي التشريع - والرخصة من ناحية الوصول ، فإنَّ المصلحة لا تقتضي الايصال فلا منافاة فاجتماع حكمين بهذا الشكل لا مانع منه ، وقد قلنا أكثر من مرّة إنَّ الحكمين بما هما حكمان لا مشكلة في اجتماعهما لأنهما مجرّد اعتبار ، إنما المشكلة فيما وراء الحكمين وما يحكيان عنه ، وحينئذٍ المنافاة تحصل بلحاظ عالم الملاكات - يعني الارادة والمصلحة - ، فحينئذٍ نقول لابد وأن نفترض وجود حكمين كلّ منهما ناشئ عن ارادة ومصلحة ولا يمكن اجتماع حكمين من هذا القبيل ، لأنَّ المولى يلاحظ الملاك فإذا فرض أنَّ الملاك متساوٍ من كلتا الناحيتين فمن المناسب أن لا يجعل وجوباً واقعياً ورخصة ظاهرية ، وإنما المناسب أن يجعل التخيير ، لأنَّ المفروض وجود تساوٍ من الناحيتين ، فإذا كان هناك تساوٍ فالحكم الذي جعله بما أنَّ مصلحة الوجوب تساوي مصلحة الرخصة الظاهرية فيجعل التخيير فيقول من الأوّل جعلت التخيير لا أنه يجعل حكماً واقعياً وظاهرياً ، وإذا فرض أنَّ ملاك الحكم الواقعي أقوى وملاك الحكم الظاهري كان مغلوباً وليس مساوياً ولا غالباً فلابد أن يجعل الحكم على طبق ذلك الملاك الغالب ، فإذا كان الملاك الغالب هو الوجوب دون الاباحة فيجعل الوجوب فقط أما ذاك فملاكه مغلوب فهو في حكم العدم فلا يجعل الحكم الظاهري ، وإذا انعكس الأمر انعكست النتيجة ، فإذن افتراض حكمين لا معنى له من الأساس بعد النظر إلى الملاكات بالشكل الذي أوضحناه.

 


[1] حقائق الأصول، السيد الحكيم، ج2، ص77.
[2] يعني يلزم ان يشرع المولى الصلاة مثلاً فإنه إذا لم يشرع الصلاة فلا يمكن للعبد أو يوجد الصلاة في الخارج فإن هذا لا معنى لها فإن وجود الصلاة في الخارج فرع أصل تشريع الطلاة.
[3] أما لو جعل المولى التشريع ولكنه ابقاه عنده ولم يبينه للمكلف فإن المكلف لا يوجد الصلاة لأنه لا يوجد عنده علم.