الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

الجواب الرابع:- ما أفاده الشيخ العراقي(قده)[1] ، وهو مركّب من مقدمات أربع ، وسوف نذكر المقدمة الأولى الثانية لأنهما الأهم وبهما يتم دليله:-

المقدمة الأولى:- إنَّ الأحكام تتعلق بالعناوين الذهنية لا بالمعنونات الخارجية ، فإنَّ العنوان يلحظ به المعنون الخارجي وهو هو بالنظر التصوّري وإن كان غيره بالنظر التصديقي.

ونذكر قضية ثانية[2] ، وهي أنَّ الحكم عملية ذهنية وليست خارجية ، فكيف ما في الذهن ينصب على الخارج فإنَّ هذا يلزم منه إما أنَّ الخارج يدخل إلى الذهن أو أنَّ ما في الذهن يخرج إلى الخارج ، فإذن الأحكان تتعلق بالعناوين الذهنية ، ولكن بتقى مشكلة وهي أنَّ العنوان لا ينفعنا وإنما الذي ينفعنا هو المعنون ، ولكن نجيب ونقول: إنَّ هذا صحيح ولكن نحن نأخذ العنوان بما أنه متّحد مع المعنون الخارجي ، فإنَّ الله عزّ وجلّ أعطى قدرة للذهن البشري أن يرى الخارج من خلال الصور والعناوين الذهنية وكأنه هو هو لا غيره ، ولكن هذه نظرة بدوية والتي يعبر عنها بالنظر التصوري الابتدائي ، أما بالنظر التصديقي الفاحص فغيرها ، ومن الأدلة على أنه بالنظر التصوّري هذا موجود هو أنَّ الخطيب الحسيني يقرأ عن كربلاء ونحن نبكي فلماذا نبكي فهل رأينا شيئاً ؟ كأننا نرى وقائع كربلاء بأعيننا فلذلك نبكي ، فإذن هذا معناه إننا نرى الخارج بالعناوين والصور الذهنية ، وهذه الصور عين الخارج بالنظرة التصورية ، فالإنسان قد يفكر وحده فتارة يبكي وتارة يضحك فهو يرى الخارج بتلك الصور الذهنية والعناوين ولكن هذه نظرة تصورية ابتدائية عشوائية - ما شئت فسم - ، بل نقول أكثر من ذلك فإنك أحياناً ترى الانسان يفكر قليلاً فيقول أريد أن اتزوج ، فماذا ؟ إنه صارت عنده حركة ، وكيف صارت الحركة ؟ إنها تابعة للصور الذهنية وكأنه يرى الأمر أمامه ، لذلك قال العلماء يحرم التخيل لأنَّ الفتنة تأتي من هنا ، وهذا مثال لطيف لكون الصور العناوين الذهنية يرى بها الخارج.

فإذن اتضحت المقدمة الأولى وهي أنَّ الحكام تتعلق بالعناوين لا بالوجودات الخارجية غايته تتعلق بها لا بما هي هي بل بما هي عين الخارج.وهذه الفكرة موجودة أيضاً في كلمات الشيخ الأصفهاني(قده) كما هي موجودة في كلمات الشيخ العراقي(قده) ونستنتج من هذا أنه يحتمل المصدر واحد وهو استاذهما السيد محمد الفشاركي أو غيره ، فالمطلب موجود قبلهما لكنهما أضافا إليه ونقّحاه ، ولكني لم أره في كلمات الشيخ النائيني(قده) وصاحب الكفاية(قده) ، بل قال صاحب الكفاية بالعكس ، ففي باب اجتماع الأمر والنهي يصرّح بأنَّ الأحكام تتعلق بالوجودات الخارجية وبنى امتناع الاجتماع على هذا .

المقدمة الثانية:- إنَّ ذات شرب الخمر من دون قيد مشكوك الحرمة مثلاً تغاير ذات شرب الخمر المقيّد بكونه مشكوك الحرمة ، فهما توجد ذاتان ، فرتبة هذه الذات غير رتبة تلك الذات ، فإنَّ رتبة ذات الخمر مشكوكة الحرمة فرع ذات الخمر ، يعني أنَّ رتبته متأخرة ورتبة ذات الخمر متقدّمة ، فإذن هاتان ذاتان والدليل هو اختلاف الرتبة بينهما ، فصورة ذات الخمر تغاير صورة أو عنوان ذات الخمر بقيد مشكوك الحرمة ، فإنَّ الشك في حرمة ذات الخمر فرع تصوّر ذات الخمر حتى يثبت هذا ، فإذن اختلاف الرتبة يدل على تغاير هاتين الذاتين ، وإذا اختلفت الذاتان فلا مانع في أن تنصب الحرمة الواقعية على صورة ذات شرب الخمر وتنصب الاباحة الظاهرية على صورة ذات الخمر التي هي مشكوكة الحرمة ، فإذن محلّهما مختلف ، فلا اجتماع ضدّين ولا اجتماع مثلين.

وإلى هنا تم دلليه ولا نحتاج إلى المقدمتان الأخريان ، بل هاتان المقدّمان تكفيان للوصول إلى ما أراد وهو أنه لا يتحقق اجتماع المثلين ولا المتضادين.

وبصورة مختصرة:- إنَّ الأحكام تتعلّق بالصور الذهنية بما أنها بالنظر التصوّري البدوي عين الخارج ، والصورة الذهنية لذات شرب الخمر تغاير الصورة الذهنية لشرب الخمر المقيدة بكونها مشكوكة الحرمة ، فإذا اختلفت الصورتان فلا مانع من توجه الحرمة الواقعية إلى الصورة الأولى وتوجه الاباحة الظاهرية إلى الصورة الثانية.

والجواب:- صحيح أنَّ الصور الذهنية مادامت متغايرة يكفي ذلك لعدم تحقق اجتماع الحكمين ، يعني نسلّم بالمقدمة الأولى ، ولكن نقول: إنه يلزم أن تكون الصور الذهنية متغايرة تغايراً ذاتياً وليس تغايراً بسبب كيفية اللحاظ من دون تغاير ذاتي ، فمثلاً الغصب والصلاة فإنَّ التغاير بين هاتين الصورتين هل هو تغاير اعتباري أو تغاير ذاتي ؟ إنَّ الغصب شيء والصلاة شيء آخر ، فإنَّ الصلاة من مقولة الأفعال والغصب هو تصرفٌ في مال الغير من دون إذنه ، فهذه الصورة تغاير تلك الصورة فيمكن أن يقول لا يلزم من ذلك اجتماع حكمين فالوجوب يتعلق بصورة الصلاة بما هي عين الخارج والحرمة تتعلق بصورة الغصب بما هي عين الخارج وهاتان الصورتان واحدة غير الأخرى ، وذلك حتى في الدار المغصوبة فإنه حتى لو قلنا بأنَّ الصلاة يتعلق بها الوجوب والغصب تتعلق به الحرمة فسوف تتقبلها ، وأما إذا كان التغاير تغايراً طارئاً أو بالاعتبار فهذا لا يكفي ، إلا إذا كان كافياً يلزم أن نقول إنه يصح توجه حكمين من هذا القبيل فنقول توجد حرمة ثابتة لصورة ذات شرب الخمر وتوجد حلّية ثابتة لصورة شرب الخمر بقيد المقطوع الحرمة ، فإنَّ هذه الصورة غير تلك الصورة ، فتلك صورة لذات شرب الخمر من دون قيد ، أما الثانية فهي صورة للخمر بقيد مقطوع الحرمة ، فصارت صورتان مختلفتان ، فإذا كان يكفي هذا التغاير فنقول للعراقي(قده) إذا كان التغاير العارض والاعتباري يكفي وإن لم يكن تغايراً ذاتياً فهنا يلزم أن تقول يجوز للمولى أن يقول ذات شرب الخمر حرام أما الخمر مقطوع الحرمة فهو حلال وهذا لا يمكن فإننا نشعر بالوجدان أنَّ هذا غير صحيح ، وهذا إن دلّ فإنما يدل على ما نقول من أنه لا يكفي التغاير الاعتباري وباللحاظان وبإضافة قيد ، بل لابد من أن يكون التغاير بين العنوانين تغايراً ذاتياً وإلا يلزم ما أشرنا إليه ، وفي مقامنا لا يوجد تغاير ذاتي بين صورة ذات شرب الخمر وصورة شرب الخمر بقيد مشكوك الحرمة فإنَّ هذا لا يوجب تغايراً ذاتياً بين الصورتين ، وإنما هذا تغاير بالاعتبار مثل اضافة قيد مقطوع الحرمة فكما هناك لا يكفي هنا لا يكفي أيضاً ، فارتفع هذا البرهان من الأساس.


[1] نهاية الأفكار، العراقي، ج3، ص60.
[2] وهذا ما ذكرناه في مقدمات نافعة في بداية الجورة الأصولية.