الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/06/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- شمول أدلة الأصول لجميع الاطراف - العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

النقطة الثالثة:- هل تنجيز العلم الاجمالي لوجوب بالموافقة القطعية بحو العلّية أو بنحو الاقتضاء ؟

والمقصود من تنجيزه بنحو العلّية يعني أنه لا يمكن الترخيص في ترك الموافقة القطعية ، يعني في مثال صلاة الجمعة والظهر لا يمكن الترخيص في طرفٍ واحد ، فإذا قلنا يمكن الترخيص فهذا معناه أنَّ العلم الاجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعية بنحو المقتضي ، إذا قلنا لا يمكن الترخيص في أحد الأطراف فهذا معناه أنه ينجّزها بنحو العلّية ، وقد ذهب الشيخ العراقي(قده)[1] إلى أنَّ العلم الاجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية بنحو العلّية ، فلا يمكن للشارع أن يرخّصنا في ترك الموافقة القطعية ، وتركها يصير بالترخيص في طرفٍ واحد[2] أو بفعله[3] .

وفي المقابل قال الشيخ النائيني(قده)[4] إنه ينجّز وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء.

وقبل أن ندخل في صميم البحث نقول:- إنَّ هذا البحث إنما يأتي في حالتين:-

الأولى:- إذا بنينا على أنَّ العلم الاجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعية بذاته لا بسبب تعارض الأصول كما كان الشيخ العراقي(قده) يبني على ذلك ، فهنا يأتي النزاع في أنه هل ينجّز وجوب الموافقة القطعية بذاته بنحو العلية أو بنحو الاقتضاء ؟ ، أما إذا قلنا هو ينجّز وجوب الموافقة القطعية بسبب تعارض الأصول فلا معنى لإيراد هذا البحث هنا ، لأنه إذا بنينا على أنَّ تجيز الموافقة القطعية بسبب تعارض الأصول فهذا معناه أنَّ الأصل في حدّ نفسه يمكن أن يجري في كلّ طرفٍ لولا المعارضة ولكن بسب المعارضة لا يجري ، وهذا ينبغي أن يكون واضحاً.

الثانية:- إنَّ هذا النزاع يأتي فيما إذا لم نقل بأنَّ الترخيص في جميع الأطراف شيء ممكن حتى بناءً على أنه منجّز بذاته ، فإننا ذكرنا سابقاً أنه لو قلنا إنَّ العلم الاجمالي منجّز وافترض أنه منجّز بذاته فهل يمكن الترخيص في كلّ الأطراف - أي في المخالفة القطعية - أو لا ؟ وقد قلنا:- قال جماعة منهم الشيخ الأنصاري والنائيني لا يمكن ذلك ، لأنَّ هذا ترخيص في المعصية أو هو منافٍ لحكم العقل أو يلزم التناقض ، ونحن في مقام الردّ عليهم قلنا يمكن الترخيص في كلا الطرفين ، فيمكن للشارع - تسهيلاً على العبادة أو غير ذلك - أن يقول للمكلف ( إذا علمت بأنَّ هذا خمر تفصيلاً فهو حرام أما إذا حصل اشتباه فأنا أرخصك في كلا الطرفين ) ، ونحن ملنا إلى هذا ، فإذا بنينا على هذا الرأي - وأنَّ العلم الاجمالي منجّز بذاته لحرمة المخالفة القطعية لكن يمكن الترخيص في كلا الطرفين ثبوتاً وإن قلنا بأنَّ الدليل قاصر اثباتاً لأنَّ العرف يشعر بالمناقضة فينصرف الدليل عن مثل الشبهة المحصورة لكن الامكان العقلي موجود - فإذا كان يمكن الترخيص في كلا الطرفين فبالأولى يمكن الترخيص في الطرف الواحد.

فإذن هاتان حالتان يلزم استثناؤهما عن محلّ الكلام.

وبعد أن عرفنا هذا نقول:- إنَّ الشيخ النائيني(قده) ذهب إلى أنَّ العلم الاجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعية بنحو المقتضي لا بنحو العلّية ، لكن تبقى مشكلة وهي أنه كيف يجري الأصل في طرفٍ واحد فإنه إذا أمكن أن يجري في طرفٍ واحد أمكن أن يجري في الطرف الثاني ؟ ، وهل هناك مثال لجريانه في طرفٍ واحد حتى يكون هذا النزاع بين العراقي والنائيني مثمراً وعملياً ؟ ، أما إذا قلنا إنَّ دليل الأصل دائماً إما أن يشمل الطرفين أو أنه لا يشمل هذا ولا ذاك أما أنه في موردٍ يشمل أحد الطرفين ولا يشمل الطرف الآخر فلا يوجد فهذا النزاع سوف يصير عقيماً.

وبهذا أشكل الشيخ النائيني(قده) حيث قال:- أنا أذهب إلى الاقتضاء ولكن هذا النزاع عقيم وليس مثمراً ، يعني هو نزاع علمي فقط ، لأنه لا يوجد مورد يمكن أن يجري فيه الأصل في طرفٍ من دون أن يجري في الطرف الآخر.وبكلمة أخرى:- إذا أمكن أن يجري الأصل الترخيصي في الطرف الأوّل فالطرف الثاني إما أن يجري فيه الأصل الترتخيصي أيضاً فحينئذٍ لا ثمرة لهذا البحث ، أو يجري فيه الأصل الإلزامي فلا علم إجمالي من الأساس فإنه سوف ينحّل انحلالاً حكمياً ، لأنه من أحد شرائط العلم الاجمالي أن لا يجري في أحد الطرفين أصل إلزامي والآخر يجري فيه أصل ترخيصي ، كما لو كنا نعلم اجمالاً في زمان الغيبة أنَّ الواجب إما صلاة الظهر أو الجمعة فهذا العلم الاجمالي قد يقال بأنه منحل ، لأنَّ صلاة الجمعة يجري فيها استصحاب بقاء وجوبها فيجري أصل البراءة عن الظهر بلا معارض فينحل العلم الاجمالي ، ولكن هذا الانحلال يعبّر عنه بالانحلال الحكمي فإنَّ العلم الاجمالي موجود ولكن المنجّزية قد زالت.فالذي ريد أن يقوله الشيخ النائيني(قده) هو أنه إذا كان الأصل الترخيصي قابلاً للجريان في الطرف الأوّل فالطرف الثاني إما أن يجري فيه أصل ترخيصي أو اصل إلزامي ولا يمكن أن لا يجري فيه أي أصل من الأصول ، فإذا كان أصلاً ترخيصياً عادت المعارضة ، يعني أنَّ هذا الأصل ليس جارياً في طرف واحد فقط ، وإذا كان يوجد في الطرف الثاني أصل إلزامي فقد انحلّ العلم الاجمالي انحلالاً حكمياً ، فإذن لا يوجد عندنا مثال حتى نختلف عليه ، يعني أنَّ هذا النزاع علمي فقط وعقيم .

وجاء الشيخ العراقي(قده) بمثال لذلك حيث قال:- كما لو فرض أننا وجدنا إناءين في كل واحدٍ منها ماء والأوّل كان مشكوك الطهارة والنجاسة ولا توجد له حالة سابقة ، وكان الاناء الثاني حالته السابقة هي الطهارة وجاء الطفل ووضع اصبع يده النجسة في أحد الاناءين ، ففي مثل هذه الحالة سوف أعلم بنجاسة أحد الاناءين وسوف يتعارض أصل الطهارة في الاناء الأوّل مع استصحاب الطهارة في الاناء الثاني ويتساقطان فيبقى أصل الطهارة في الاناء الثاني الذي فيه استصحاب الطهارة.

ولا تقل:- ليقع أصل الطهارة هذا طرفاً للمعارضة أيضاً.

فنقول:- مادام الاستصحاب موجوداً فهو حاكمٌ على أصل الطهارة ، فالحاكم لابد وأن يسقط بالمعارضة ، وبعد سقوطه يبرز آنذاك أصل الطهارة فيجري في الاناء الذي كان فيه استصحاب الطهارة بمن دون معارضة بأصل الطهارة في الاناء الأوّل ، لأننا قد افترضنا أنَّ ذاك الأصل قد سقط بالمعارضة.

 


[1] نهاية الأفكار، العراقي، ج3، ص307.
[2] هذا في مثال الظهر والجمعة.
[3] هذا في مثال اناء الخمر المردّد بين اناءين.
[4] فوائد الأصول، النائيني، ج4، ص24.