الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/05/24
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
والجواب:- صحيح أنَّ الحكم بالتحريم مثلاً مجعول بداعي التحريك نحو الترك ، ولكن نسأل:- هل الحرمة مجعولة بداعي التحريك الفعلي أو معولة بداعي التحريك الشأني[1] ؟ أنه مجعول ليس بداعي التحريك الفعلي إذ لو كان مجعولاً بداعي التحريك الفعلي للزم أن لا يوجد حكم في حقّ الجاهل ، لأنه لا يوجد تحريك فعلي في حقه لأنه لا يعلم بالحكم ، بل يلزم أكثر من ذلك وهو أنه لا داعي إلى تعلّم الأحكام ولنبقَ على جهلنا ، فأنت لا تتعلّم الأحكام فلا يوجد تحريك فعلي في حقّك فلا حكم ، وهذا غير محتمل.
فإذن الأحكام مجعولة ليس بداعي التحريك الفعلي بل هي مجعولة بداعي التحريك الشأني - يعني إن علم به - ، وهذا هو الصحيح وهو من البديهيات ، وإذا قبلنا بهذا فنقول:- لو كان المدار على التحريك الفعلي فالمنافاة صحيحة كما قلت ، فإنَّ أحد الاناءين إذا كان خمراً حتماً فحينئذٍ سوف يحركني بالفعل ، فالمولى جعل الحرمة المحركة بالفعل نحو الترك ، والتحريك الفعلي نحو الترك يتنافى مع جعل الرخصة المحرّكة نحو التخيير ، وهذه منافاة واضحة ، لأنَّ ذاك يحرك نحو الترك بداعي التحريك الفعلي نحو الترك وهذا يحرّك بداعي التحريك الفعلي نحو التخيير والسعة فتصير المنافاة واضحة ، أما إذا قلنا إنَّ الحكم مجعول بنحو التحريك الشأني فلا منافاة ، والوجه في ذلك:- هو أنَّني أعلم بالحرمة في الاناءين ولكن لا أعلم بأنَّ الحرام أيّ الاناءين هو ، فهو يحركني نحو الترك إن علمت ، وأنا لم أعلم فلا يحركني نحو الترك ، فإذا لم يحركني نحو الترك فحينئذٍ تعود الرخصة تحرّك نحو التخيير من دون تحريكٍ آخر في مقابلها ينافيها ، وهذا شيء ظريف يجدر الالتفات إليه[2] .
الوجه الثالث[3] لتوهم المنافاة:- وهو ما ذكره الشيخ العراقي(قده)[4] وحاصله:- إنَّ العلم الاجمالي هو إجمالي بلحاظ هذا الطرف بخصوصه ، وهكذا بلحاظ ذاك الطرف بخصوصه ، وأما بلحاظ الجامع الأحد فهو تفصيلي ، فأنا أعلم تفصيلاً بحرمة الأحد ، نعم الأحد الخارجي هذا بخصوصه لا أعلم به تفصيلاً ، وذاك بخصوصه لا أعلم به تفصيلاً ، أما الأحد الجامع فأنا أعلم تفصيلاً بحرمته ، ولذلك أقول إنَّ الأحد حرامٌ جزماً ، ولكن هذا الطرف هل تستطيع أن تقول هو حرام جزماً ؟ كلا ، وهل تستطيع أن تقول ذاك الطرف حرام جزماً ؟ كلا ، أما الأحد فأجزم بأنه حرام ، فإذن يوجد علم تفصيلي بالجامع وهذا ينبغي أنَّ يكون مسلّماً ، هذه مقدمة.
وهناك مقدمة الثانية:- وهي أنَّ العلم التفصيلي علّة لحرمة المخالفة القطعية لا أنه مقتضي وهذا واضح ، لأنه يوجد علم تفصيلي ، فإذا عرفت أنَّ هذا حرام تفصيلاً فسوف يصير علّة لحرمة المخالفة القطعية ولا يمكن للشارع أن يرخّص فيه ، لأنَّ هذا علم تفصيلي وكلّ علم تفصيلي هو علّة لحرمة المخالفة القطعية.
فإذا تمت المقدمة الثانية وصلنا إلى النتيجة:- وهي أنه مع علمي التفصيلي بالجامع لا يمكن الترخيص في كلا الطرفين فإنَّ ذلك مخالفة قطعية للعلم التفصيلي بالجامع وهو لا يجوز ، ومادام يوجد عندي علم تفصلي بحرمة الجامع - أي الأعم - في الاناءين فهذا علّة لحرمة المخالفة القطعية ، يعني لا يجوز الترخيص في كلا الطرفين ، فإذن ثبت المطلوب.
والجواب:- صحيح أنه يوجد عندنا علم تفصيلي بلحاظ الجامع ولكن توجد إلى جنبه شكوك في انطباق الجامع على هذا الطرف أو في انطباقه على ذاك الطرف ، ولو لم تكن هذه الشكوك موجودة فهناك اتفاق بيننا على أنه لا يمكن الترخيص في المخافة القطعية ، ولكن هذه الشكوك الواقفة إلى جنب علمنا التفصيلي بالجامع مادامت موجودة فإذن يمكن أن يقال أنا أرخّصك في هذا ، وهذا ليس عندك فيه علم تفصيلي بالحرمة ، وأرخّصك في ذاك وذاك بخصوصه لا يوجد عندك علم تفصيلي بالحرمة فيه ، فإذن فلنقل بأنه جائز ، أما الذي ذكرته فهو يتم فيما إذا لم تكن هناك شكوك ، وأما إذا كانت هناك شكوك فعدم جواز الترخيص أوّل الكلام وعين المتنازع فيه.
إذن اتضح أنَّ الوجوه الثلاثة التي استدل بها على عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية - من لزوم مخالفة حكم العقل أو من لزوم محذور التناقض أو من جهة أن لنا علماً تفصيلياً بالجامع - لا تثبت حرمة المخالفة القطعية ، بل يمكن الترخيص في كلا الطرفين بلا مانع ، نعم يبقى البحث الاثباتي وهو أنه هل أدلة لأصول فيها اطلاق وتشمل الطرفين أو لا ؟ فهذا ما سوف نبحثه.