الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

أو تكون المناقضة من ناحية عالم الامتثال:- بمعنى أنَّ الحرمة يكون امتثالها بالترك ، فالمولى يطلب الترك وامتثالي يكون بالترك ، أما الحكم الظاهري بالرخصة فهو لا يقتضي الترك وإنما يقول الأمر لك ، فإذن من حيث الامتثال هما يختلفان ، فذاك امتثاله يكون بلزوم الترك ، أما الاباحة الظاهرين في الطرفين امتثالها يصير بأن لا تمدّ يدك إلى الأطراف أو أنك تمدها فكلاهما لا يتنافيان فإنه لا محذور في ذلك.

والخلاصة:- إنَّ التنافي بينهما هي في عالم الامتثال ، فذاك امتثاله يقتضي الترك وأما الحكم الظاهري بالاباحة لا يقتضي الترك في مقام الامتثال ، فحينئذٍ يحصل التنافي بهذا الاعتبار ، هكذا قد يقال في توجيه المناقضة ، فالمناقضة ليست بين الحكمين بما هما حكمان واعتباران بل هي مناقضة بينهما بلحاظ عالم الامتثال.

وجوابه:- صحيح أنَّ امتثال الحرمة الواقعية يكون بالترك فقط ، ولكن نضيف قيداً وهو أنه يكون امتثالها بالترك ( فيما إذا لم يرّخص المولى في الفعل لنكتةٍ ومصلحة ) ، فالحرمة تقتضي الترك في مقام الامتثال فيما إذا لم يرخّص المولى في الفعل ، وأما إذا رخّص في الفعل فتلك الحرمة الواقعية لا تقتضي الترك بعد ترخيص المولى ، فإذن لا منافاة بينهما من حيث عالم الامتثال بعد أن أخذنا هذه الاضافة بعين الاعتبار.

ولعلك تقول:- إنه كيف يرّخّص المولى في الحرمة ؟!!

ولكن نقول:- نحن الآن نفترض أنَّ الترخيص يمكن أن لا يأتي ، ولكن بعد إمكان الترخيص فلا تستطيع أن تقول إنَّ الحرمة تقتضي الترك ، فنحن نقول صحيح هي تقتضي الترك في الامتثال ولكن مادام المولى قد رخّص فلا منافاة.

ومنه يتضح التأمل فيما أفاده السيد الخوئي(قد)[1] :- فإنه ذكر إنه توجد منافاة من حيث عالم الامتثال بهذا البيان الذي قرّبناه ، وقد اتضح الجواب:- فإنَّ الحرمة تقول اترك إذا فرض أنَّ المولى لم يرخّص ، أما بعد أن رخّص في الترك لمصلحةٍ أقوى فعلى هذا الأساس لا مانع من اجتماعهما في عالم الامتثال ، يعني أنَّ الحرمة لا تقتضي الترك آنذاك وإنما هي تقتضي الترك فيما إذا لم يرخّص.

أو تكون المناقضة في عالم الملاك:- بمعنى أنَّ الحرمة الواقعية ناشئة من مفسدة بينما الترخيص الظاهري ناشئ من مصلحة ولو مصلحة التسهيل ، فيلزم اجتماع الأمرين المتنافيين - يعني المصلحة والمفسدة - وهما ليسا مجرّد اعتبار حتى تقول لا محذور في اجتماع الاعتبارين المتنافيين ، وإنما الملاك أمر حقيقي ، فالحرمة ناشئة من مفسدة والمفسدة أمر حقيقي وليس اعتبارياً ، وهكذا الترخيص ناشئ عن مصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا أمر اعتباري ، فيلزم اجتماع المتنافيين الحقيقيين.

وإذا كان هذا هو المقصود فجوابه:- إنَّ هذا وجيه فيما إذا قلنا بأنَّ ملاك لحكم الظاهري يغاير ملاك الحكم الواقعي فيلزم اجتماع الملاكين المتضادين ، وأما إذا فرض أنَّ ملاك الحكم الظاهري نفس ملاك الحكم الواقعي وليس مغايراً فلا يلزم اجتماع الملاكين المتنافيين آنذاك.

أما كيف أنَّ ملاك الحكم الظاهري نفس حكم ملاك الحكم الواقعي ؟

والجواب:- إنَّ هذه قضية وجدانية عقلائية تتضح من خلال بيان بعض الأمثلة والشواهد ، فمثلاً أنا لا أدري يأتينا ضيوف هذا اليوم أو لا فإن كانوا يأتون فسوف آمر أهل بيتي بإعداد الطعام وإذا لم يأتوا فسوف لا آمرهم بذلك ، ففي مثل هذه الحالة ماذا أصنع ؟ إني اقارن بين مصلحة خدمة الضيوف وحفظ ماء الوجه وبين مفسدة ما إذا لم يأتوا فإنَّ هذا الطعام سوف يبقى ويكون تبذيراً ، فأقارن بين المصلحة الواقعية لإكرام الضيف وبين المفسدة الواقعية للتبذير ، وهذان ملاكان واقعيان ، وبعد ذلك أقرر على أنَّ حفظ ما الوجه أهم فآمر بإعداد الطعام ، فالأمر بإعداد الطعام هو حكم ظاهري - لأني لا أعلم هل يأتي الضيوف أو لا - فأقول لأهل بيتي ( متى ما شككتم في مجيء الضيوف فعليكم بإعداد الطعام حفاظاً على ما وجهنا فإنه أهم ) ، فهذا الحكم الظاهري هل نشأ من ملاك في نفس الحكم الظاهري ؟ كلا وإنما نشأ من الملاك الواقعي الأهم لأنه يوجد ملاكان واقعيان يتزاحمان فيما بينهما فالأقوى هو الذي حرّكني إلى أن آمر بإعداد الطعام ، فملاك الحكم الظاهري ليس شيئاً مغايراً لملاك الحكم الواقعي ، وإنما أهمية ملاك الحكم الواقعي هي التي دعتني إلى أن أصدر حكماً ظاهرياً لا لملاكٍ فيه بل لنفس الملاك الواقعي الأهم ، هذا إذا كنت أريد الحفاظ على ماء وجهي ، وأما إذا فرض العكس فأقول ( لا تعدّوا الطعام ) ، فهذا أيضاً حكم ظاهري ناشئ من أهمية مفسدة التبذير ، فعلى كلا التقديرين هذا الحكم ناشئ من الملاك الواقعي الأهم ، فإذن لا يوجد في الحكم الظاهري ملاك خاص به حتى نقول يلزم اجتماع الملاكين المتنافيين - ملاك الحكم الظاهري وملاك الحكم الواقعي - وإنما الموجود هو ملاك واحد ، فذاك الملاك الواقعي الواحد الأهم ينشئ الحكم الواقعي وبسبب أهميته في نظري أنا أنشئ حكماً ظاهريا ، فلا يوجد ملاكان أحدهما للحكم الواقعي والآخر للظاهري ليلزم اجتماع الملاكين المتنافيين.

أو تكون المناقضة من حيث عالم الحركية:- بأن يقال: إنَّ الحكم الواقعي بحرمة الخمر عبارة عن اعتبار مجعول بداعي تحريك المكلّف نحو الترك بينما الرخصة الظاهرية في كلا الطرفين فهي لم تنشأ بداعي الترك فتلزم المنافاة حينئذٍ ، فالحكم الواقعي بالحرمة مجعول بداعي الترك بينما الرخصة الظاهرية في كلا الطرفين ليست مجعولة بداعي الترك بل بداعي التوسعة واطلاق العنان والحرية بين الفعل وبين الترك ، فذاك مجعول بداعي الترك وهذا مجعول لا بداعي الترك فلزم المنافاة من هذا الحيث ، يعني أنَّ الأوّل مجعول بداعي الترك بينما الثاني ليس مجعولاً بداعي الترك.


[1] مصباح الأصول، السيد محمد الواعظ الحسيني، ج2، ص80.