الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/05/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

الدليل الثاني[1] :- ما أشار إليه الشيخ النائيني(قده)[2] ، وهو أنه إذا فرض أنك تعلم بأنَّ أحد الاناءين خمر وممنوع منه ولا يجوز ارتكابه فإذا كنت تعلم بذلك حتماً فتجويز الشرع بارتكابهما من خلال اجراء أصل البراءة أو الحلّية على الطرفين يكون مناقضاً لعلمي بوجوب ترك أحدهما ولحرمة أحدهما.

وهو(قده) لم يستعن بفكرة المنافاة لحكم العقل حتى تقول مثلاً إنَّ حكم العقل تعليقي وليس تنجيزياً كما أجبنا ، وإنما قال إنَّ الترخيص في كليهما يتنافى مع علمي بحرمة أحدهما فلا يمكن صدور ذلك لأنه يلزم اجتماع المتناقضين ، أي لتحقق التناقض.

وعلى هذا المنوال ذكر السيد الخميني(قده)[3] أيضاً ، بل نتمكن أن ننسب ذلك إلى الشيخ الخراساني(قده) ولكنه لمح إليه لا أنه صرّح به حيث قال:- ( ومحذور المناقضة القطعية كمحذور الترخيص في الشبهة البوية فإن احتمال اجتماع المتناقضين مستحيل كالقطع بالمتناقضين )[4] ، فكلامه هذا يشير إلى ما التفت إليه الشيخ النائيني(قده).

فإذن يدّعى أن تشريع تجويز المخالفة القطعية يلزم منه اجتماع المتناقضين ، وكلّ تشريع يلزم منه اجتماع المتناقضين يكون مستحيلاً.

وفي جوابه نقول:- أين يلزم اجتماع المتناقضين ؟ هناك مجالات يمكن أن يتصوّر فيها اجتماع المتناقضين ، فأنت أيّ مجال تريده ؟ ، المجال الأوّل اجتماعهما بلحاظ عالم نفس الحكم ، يعني بتعبير آخر أنَّ الخمر المعلوم وجوده في أحد الاناءين يقول لي ( اجتنب عن الخمر الموجود هنا ) فهذا يتنافى مع ما يقوله الترخيص الشرعي في كلا الطرفين ، إذ الترخيص الشرعي يقول ( أنت مرخّص في هذا الطرف لقاعدة رفع ما لا يعلمون ومرخص في ذاك الطرف أيضاً لقاعدة رفع ما لا يعلمون ) وهذا الترخيص في الارتكاب يتنافى مع العلم بحرمة أحدهما ، فإن نفس حرمة الفعل تناقض الرخصة في الفعل ، فإنَّ هذان متناقضان بما هما هما ، وأخرى نقول إنَّ التناقض هو بلحاظ عالم الامتثال ، وأخر نقول إن التناقض هو بلحاظ عالم الملاك ، وأخرى نقول إنَّ التناقض هو بلحاظ عالم المحركية لأن علمي بحرمة أحدهما يحركني نحو الترك لكن الرخصة تحركني نحو الارتكاب ، فالموارد التي يحتمل فيها اجتماع التنافي هي أربعة.

أما الأوّل - وهو أن يكون التنافي بلحاظ نفس الحكم يعني حرمة أحدهما بما هي حرمة لا تجتمع مع الرخص في جواز ارتكابهما فالرخصة بما هي رخصة بقطع النظر عن الامتثال لا تجتمع مع حرمة أحدهما بما هي حرمة بقطع النظر عن الامتثال والملاك وغير ذلك ، بل بنفس الحكم بما هو حكم - فإذا كان المقصود هو هذا اللحاظ فقد يجاب:- بأنَّ الحكم اعتبار ولا محذور في اعتبار المتناقضين ، كأن اعتبر النهار ليلاً واعتبر الليل نهاراً فهذا لا مشكلة فيه كاعتبار فإنَّ الاعتبار سهل المؤونة ، والحرمة هي اعتبار وكذلك الرخصة اعتبار ، واجتماع الاعتبار مع اعتبار آخر بما هما اعتبار لا مشكلة فيه ، هكذا قد يخطر إلى الذهن بل ، ربما أجاب بعض بذلك.

ولكن يرد على هذا:- صحيح أنَّ الاعتبار بما هو الاعتبار سهل المؤونة ويمكن اعتبار المتناقضين ولكن نحن نفترض أنَّ هذا الاعتبار قد صدر من الحكيم المشرّع ولا معنى لأن يعتبر المتناقضين ، فإنه وإن كان ذلك شيئاً ممكنا في حدّ نفسه لكنه لغو من الحكيم أن يعتبر المتناقضين ولا يصدر هذا منه ، فلذلك نحتاج إلى تعديل لهذا الكلام فإنَّ هذا الكلام بهذا المقدار - وهو أنَّ الاعتبار سهل مؤونة فيمكن أن اعتبر الليل نهاراً وبالعكس - صيح أنه يمكن ولكن هذا لا يتم في موردنا لأنَّ المعتبر هو الحكيم المطلق ولا معنى للحكمي المطلق أن يعتبر المتناقضين بأن يقول هذا الشيء حرام وأيضاً مرخّص فيه فإن هذا لغو منه ، ولا يمكن أن يصدر منه .

إذن نحتاج إلى إدخال تعديل عليه فنقول:- إنه لا محذور في اجتماع هذين الاعتبارين بعدما كان كل واحدٍ من الاعتبارين هو لنكتة خاصة به ، فالخمر الواقعي اعتبره الشرع محرّماً لنكتة خاصة وهي المفسدة فيه ولكن عند اشتباه الخمر بغيره توجد مصلحة - ولو مصلحة التسهيل - للحكم بالرخصة في هذا والحكم بالرخصة في ذاك.

إذن اجتماع الاعتبارين لا مشكلة فيه ، لأنَّ ذلك اعتبار ولا يلزم محذور لغوية اعتبار المتنافيين من قبل الحكيم حيث نقول كلا فإنه هناك نكتة لكل واحد من الاعتبارين ، فهو اعتبر الحرمة الواقعية للخمر الواقعي لمفسدته ولكن عند الاشتباه والتردّد بين طرفين اعتبر الرخصة لثبوت مصلحة في ذلك.

إذن اجتماع الاعتبارين في حدّ نفسه لا مشكلة فيه ، ولا يوجد فيه محذور صدور اللغو من الحكيم بعدما كان كل اعتبار قد تحقق لمبرّره الخاص ، فالحرمة الواقعية تحققت لواقعها الخاص وهو المفسدة الواقعية ، والترخيص في هذا الطرف وذاك تحقق لأجل النكتة وهي مثلاً التسهيل على العباد .

إذن الحكم بما هو حكم والاعتبار بما هو اعتبار لا تنافي ولا تضاد بين الحرمة الواقعية وبين الترخيص في كلا الطرفين.


[1] لإثبات العلية.
[2] اجود التقريرات، الخوئي، ج2، ص90- 91.
[3] تهي بالأصول، الخميني، ج2، ص124.
[4] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص272.