الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/05/19
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
وفيه:- نحن نسلّم للشيخ الأعظم(قده) أنَّ مخالفة الحكم العقلي بلزوم اجتناب الحرام لا تجوز ، ولكن نسأل ونقول: هل حكم العقل بعدم جواز ارتكاب الحرام الموجود في الطرفين هو حكم تنجيزي أو هو معلق على عدم ترخيص صاحب الحق - الذي هو المولى المحرِّم لهذا الشيء - ؟ فإن كان تنجيزياً فما قلته صحيح ، وإن كان معلّقاً على عدم ترخيص صاحب الحق فلا يلزم من الترخيص في كلا الاناءين المنافاة مع حكم العقل مادام حكم العقل تعليقياً.
والمناسب أنَّ حكم العقل تعليقي لا تنجيزي ، والنكتة في ذلك: هي أنَّ العقل لا يجوّز ارتكاب الحرام من باب أنَّ ذلك تجاوز على المولى وهتك له ، فالعقل يحكم بلزوم الاجتناب عن الحرام لأجل أن فيه إهانة وتجاوز على المولى ، فإذا قال المولى أنا لنكتة من النكات قد رفعت اليد عن حقّي تسهيلاً عليكم في مورد الاشتباه وتردّد الحرام ففي مثل هذه الحالة لا يحكم العقل بلزوم الاجتناب.
وإذا قلت:- إنَّ المولى إذا أراد أن يتنازل عن حقه فيلزم من ذلك أنه إذا جاز الترخيص في الشبهة المحصورة يلزم أن يجوز في المعلوم بالتفصيل - كما لو علمت أنَّ هذا خمر معلوم بالتفصيل جزماً - ، فإنَّ لازم كلامك هو أنه يمكن للمولى أن يتنازل ويقول ( صحيح أنك تعلم بحرمته تفصيلاً ولكني أتنازل عن حقي ) ، وهل تقبل بهذا ؟! أنك لا تقبل به في مورد العلم التفصيلي ، فإذن يلزم أن لا تقبله في العلم الاجمالي إذ ما الفرق بينمها ؟
قلت:- إنه في العلم الاجمالي يوجد اشتباه وتردّد ، فالمولى يرخّص لأجل نكتةٍ من النكات - ولو لنكتة التسهيل على العباد - فمادام يوجد اشتباه توجد وجاهة في أن يرخّص في ارتكابهما فيقول ( كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) وإن كانت الشبهة محصورة ، وهذا شيء ممكن ووجيه ، وهذا بخلافه فيما إذا كان هناك علم تفصيلي فإنه لا معنى للتخفيف ، فبعدما فرض أنَّ المحرّم معلوم بالتفصيل فلا يمكن جعل حكمٍ بالجواز ، لأنَّ هذا الحكم بالجواز إما واقعي أو ظاهري ، فإن كان واقعياً فسوف يلزم اجتماع الحرمة والاباحة واقعاً وهذا غير ممكن ، فإنه لا يمكن للمولى العاقل أن يحكم بإباحة الشيء وحرمته ، وإن كان ظاهرياً فالظاهري فرع الشك ومفروضنا أنه يوجد علم تفصيلي والشك ليس بموجود ، فلذلك لا يمكن الحكم بجواز الارتكاب إذا كان معلوماً بالتفصيل أنه خمر ، وهذا بخلافه فيما إذا كان مشتبها ًفيمكن أن يحكم بأنَّ ( كل شيء لك حلال ) - فارتكب هذا أيضاً فإنه جائز - ويكون هذا الحكم ظاهرياً بداعي التخفيف أو غير ذلك ، وهذا عقلائي ومقبول.
ومنه يتضح مناقشة البيان الثاني لهذا الدليل الأول:- حيث ذكرنا أنه قد يقال لا يمكن للمولى أن يرخّص في الاناءين لأنَّ هذا ترخيص في المعصية ولا يجوز الترخيص في المعصية ، فقد اتضح جوابه حيث نقول:- إنما يصدق عليه أنه معصية فيما إذا لم يرخّص المولى بنفسه في ارتكاب المشتبهين ، أما إذا رخّص فلا يصدق آنذاك عنوان المعصية ، فلا مشكلة.
ومن روّاد هذا الرأي[1] الشيخ الأصفهاني(قده)[2] ، ولكن حاول أن يتغلّب على الاشكال الذي أثرناه بدعوى أنَّ حكم العقل بلزوم اجتناب الحرام هو حكم تنجيزي لا تعليقي ، فإذن لا يمكن التنازل ، ولماذا ؟ قدّم مقدمة وقال: إنَّ العناوين الموجبة للحسن والقبح على ثلاثة أنواع ، الأوّل العناوين التي لا تقتضي القبح والحسن في حدّ نفسها كالمشي والأكل في غير وقت الحاجة الضرورية ، فإنَّ مثل هذه الأمور ليست قبيحة ولا حسنة في حدّ نفسها ، اللهم إلا فرض أن أقوم في منتصف الدرس مثلاً فهذا سوف يصير اهانة للجالسين فيصير قبيحاً ، ولكن بما هو مشي في حدّ نفسه فلا هو حسن ولا هو قبيح ، وإنما يتصف بالحسن والقبح بسبب العوارض ، والثاني ما يكون مقتضياً للسحن أو للقبح ولكن هذا الحسن والقبح قابل لأن يرتفع ، لأنَّ ثبوته بنحو الاقتضاء ، مثل عنوان الصدق فهو يقتضي الحسن ولكن يمكن أن يزول هذا الحسن بسبب بعض العناوين كما لو كان الصدق يوجب فتنةً بين عشريتين فهنا سوف يزول الحسن ، والثالث - وهو المهم - هو ما يكون علّة تامة للحسن أو للقبح ، ومثالة ينحصر بالعدل والظلم ، فإنه متى ما صدق العدل فهو حسن حتماً وإلا لم يكن عدلاً ، ومتى ما صدق الظلم كان قبيحاً وإلا إذا لم يكن قبيحاً فهذا ليس بظلم ، وهذا مسلّم.
ثم قال:- إنَّ ارتكاب الحرام المعلوم من دون فرق بين أن يكون معلوماً بالتفصيل أو معلوماً بالاجمال فيه ظلم للمولى وتجاوز على حقه ، فإذا كان ظلماً فعلى هذا الأساس يكون قبيحاً ، وقبحه لا يمكن أن يزول ، وإذا لا يمكن زواله فإذن المولى لا يمكن أن يرخّص في ارتكاب الطرفين لأنَّ فيه ظلماً للمولى والظلم قبيح دائماً ، ولا يفعل المولى القبيح.
وجوابه:- إنَّ كلامك مقبول بمقدار أنه متى ما صدق ظلم المولى كان ذلك قبيحاً ولا يجوز الترخيص فيه ، ولكن نقول: متى يصدق الظلم ؟ إنه ليس كلّما وصل التكليف فعدم امتثاله يكون ظلماً ، كلا وإنما يصدق الظلم إذا وصل التكليف أي علم به من دون فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي بإضافة أن لا يرخّص المولى في مخالفته ، أما إذا وصل التكليف والمولى قد رخّص فلا يصدق الظلم آذاك حتى تقول إنه بعد صدق الظلم لا يمكن للمولى أن يرخّص في الطرفين.