الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/05/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

نعم إذا بنينا على أنَّ العلم الجمالي مقتضي لحرمة المخالفة القطعية وليس علّة - ومعنى مقتضي أنه يمكن الترخيص في كلا الطرفين - فإذا أمكن الترخيص فيهما فحينئذٍ إذا وصلنا إلى مبحث البراءة والاشتغال نبحث هل أدلة البراءة لها قابلية لأنَّ تشمل الطرفين أو لا ، فإن قلنا بقابليتها لذلك فإذن صار ترخيص في الطرفين وبالتالي لا تكون المخالفة القطعية محرّمة ، وإذا بنينا على أنه لا يمكن الترخيص حتى في الطرف الواحد - يعني أنَّ العلم الاجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعية - فلا يعود مجال حينئذٍ للبحث في أنَّه هل أدلة الأصول- البراءة والاشتغال - تشمل الترخيص في الطرف الواحد أو لا فإنَّ هذا لا معنى له.

وهذا الكلام الذي بيّناه هو بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

أما حرمة المخالفة القطعية - يعني أنَّ العلم الاجمالي مقتضي لحرمة المخالفة القطعية يعني لا ترخيص في الطرفين ولكن يمكن أن يرخّص في كليهما - فنذهب إلى مبحث البراءة والاشتغال ونلاحظ هل أدلة الأصول تشمل كلا الطرفين أو لا ؟ ، وإذا قلنا هي لا يمكن أن تشمل الطرفين فنبحث بحثاً ثانياً ونقول صحيح أنه لا يمكن الترخيص في كلا الطرفين ولكن هل يمكن الترخيص في الطرف الواحد أو لا ؟ ، فإذا أمكن فهذا معناه أنه لا تجب الموافقة القطعية ، وأما إذا أمكن فحينئذٍ نذهب إلى أدلة الأصول العملية فنلاحظ هل فيها قابلية للشمول للطرف الواحد أو لا ؟

فإذن المهم أن نفكّك المبحث بهذا الشكل

ولكن نحن نقول:- إنَّ هذا وإن كان شيئاً فنّياً ولكن يلزم التجزئة والتفكيك في أبحاث الموضوع الواحد ، فنرى من الجنبة الفنّية أن نبحث كلا البحثين في مبحث القطع ولا نجزئه إلى جزأين وهذا ما سوف نصنعه ، فأوّلاً نقول إنَّ العلم الاجمالي هل هو مقتضي لحرمة المخالفة القطعية أو هو علّة ، فإذا كان علّة فلا يمكن الترخيص في كلا الطرفين وإذا قلنا هو مقتضي يعني يمكن الترخيص في كلا الطرفين ، فإذا بنينا على أنه مقتضي فسوف نبحث هل الأصول العملية فيها اطلاق وتشمل كلا الإناءين وتجوّز تناولهما ؟ ، يعني أنّ مثل ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) هل يمكن تطبيقه على هذا الاناء وذاك ولا محذور فيه ولا نؤجل هذا البحث إلى الأصول العملية ثم يستوجب اعادة الموضوع من جديد فإنَّ هذا غير صحيح ، فإذا بنينا على أنَّ العلم الاجمالي مقتضي لحرمة المخالفة القطعية - يعني يمكن الترخيص في كلا الطرفين - فحينئذٍ نبحث هل أدلة الأصول تشمل كلا الطرفين أو لا ؟ ، وإذا بنينا على أنه علّة - يعني لا يمكن الترخيص في كلا الطرفين - فنسأل سؤالاً جديداً وهو أنه هل يمكن الترخيص في طرف واحد ؟ ، وهذه ليست مخالفة قطعية وإنما هذا يستوجب نفي الموافقة القطعية ، فحينئذٍ هل يمكن الترخيص في طرف واحد أو لا ؟ ، فإذا قلنا يمكن الترخيص فهذا معناه أنه مقتضي لوجوب الموافقة القطعية فنبحث هل هناك قابلية لأدلة الأصول العملية لشمول طرفٍ واحدٍ دون الثاني ؟ ، ونبحث هذا في نفس موردنا لا أن نؤجله إلى مبحث البراءة والاشتغال.

حرمة المخالفة القطعية:-

والسؤال المطروح هو:- هل يجوز للمكلف ارتكاب كلا الاناءين - الذي هو المخالفة القطعية - ؟ والكلام بمقتضى القاعدة بقطع النظر عن الرواية.

يمكن أن يقال:- إنَّ أصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان يلزمهم أن يحكموا في المقام بتطبيقها على كلا الطرفين وبالتالي سوف يثبت جواز المخالفة القطعية.

وهذا نقض يسجّل على أصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان فنقول لهم:- إنه بناءً على هذه القاعدة سوف يكون الاناء الأوّل لا علم لي بتحريمه ، فيقبح العقاب على تناوله إذا كان محرّما واقعاً ، لأنه بلا بيان ، فسوف أرفعه وأشربه ، وكذلك الاناء الثاني لا بيان على حرمته فأتناوله ، وبالتالي لو أريد تطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان سوف يثبت من ذلك جواز ارتكاب كلا الاناءين ، يعني جواز المخالفة القطعية ؟!!

أما الذين ينكرون هذه القاعدة كما نحن نبني على ذلك حيث لا مدرك لها[1] فليس من المعلوم أن نحكم بقبح العقاب ، فنحن الذين لا نؤمن بقاعدة قبح العقاب سوف تصير النتيجة عندنا هي أنَّ الاحتمال منجّز ، فالإناء الأوّل احتمال الحرمة موجود فيه فيتنجّز تركه ، وهكذا الاناء الثاني احتمال الحرمة موجود فيه فيتنجّز تركه ، فكلاهما يتنجز تركه ،فنحن في راحةٍ ولا نوجه أي مشكلة.

ولكن أصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان سوف يواجهون مشكلة ، ولا مناص لهم للفرار منها إلا أن يقولوا: نحن نطبق القاعدة على الجامع ، لأنَّ الجامع هو ( واحدٌ منهما ) فذلك الواحد نعلم بحرمته ، ومادام نعلم بحرمته فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظه لأننا نعلم بحرمته ، فيلزم تركة ، وإذا لزم تركه فمن باب المقدّمة العلمية يلزم ترك جميع الأطراف حتى أعلم أني قد تركت الحرام ، يعني سوف نطبق قاعدة ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) على ذلك الواحد ، يعني أنَّ ذلك الواحد يوجد فيه اشتغال يقيني فإذا كان فيه اشتغال يقيني فمن باب المقدّمة يلزم ترك جميع الأطراف.

إن قلت:- إنَّ الذي عندنا على الأرض[2] هو هذا الاناء وذاك الاناء أما الاناء الذي في علم جبرئيل مثلاً فهو ليس موجوداً على الأرض حتى تطبق عليه قاعدة قبح العقاب ، فإذن الموجود عندنا على الأرض هو هذا الطرف وهذا الطرف أنا لا أعلم بأنه حرام فاطبق عليه قاعدة قبح العقاب ، وذاك لا أعلم بنه حرام فأطبق عليه قاعدة قبح العقاب ، وذاك الذي في علم جبرئيل ليس على الأرض حتى تنشغل به ذمّتي حتى نقول ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ).

ولكن بإمكان المشهور أن يجيبوا:- بأنَّ هذا وجيه إذا فرض أنَّ القاعدة التي نريد تطبقها هي قاعدة لفظية ، فإنَّ القاعدة اللفظية لابد أن تطبق على الشيء الموجود خارجاً ، ولكن نحن لا نريد أن نطبق دليلاً لفظياً وإنما نريد أنَّ نطبق قاعدة عقلية ، وبالتالي العقل يريد أن يقول أنت مادمت تعلم بحرمة واحدٍ وهو الذي في علم جبرئيل فلا يمكنك آنذاك أن تحكم بالبراءة في كلا الطرفين.

إذن المسألة ليست مسألة ألفاظ حتى نقول إنَّ القواعد اللفظية قاصرة عن التطبيق على ذلك الشيء الواحد في علم جبرئيل ، وإنما هي قاعدة عقلية والعقل يقول إنَّ ذلك الواحد - في علم جبرئيل - مادمت تعلم بحرمته فأنا العقل لا أحكم آنذاك بجواز ارتكاب هذا الطرف ولا بجواز ارتكاب ذلك الطرف بل لابد من تركهما معاً من باب ( الاشتغال اليقين يستدعي الفراغ اليقيني ).


[1] غايته أنَّ ألفاظها جميلة، يعني كلمة البيان حينما جيء بها هي التي أثرت ولكن لو رفعنا كلمة البيان ووضعنا مكانها كلمة ( علم ) فيقال ) يقبح العقاب بلا علم ولو كان هناك ظن ).
[2] والتعامل لابد وأن يكون مع ما هو الموجود على الأرض.