الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/05/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- العلم الاجمالي- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

مبحث العلم الاجمالي

المعروف بين الأصوليين أنَّ العلم الاجمالي منجّز كالتفصيلي ولا فرق بينهما من هذه الناحية ، بيد أنه نقل الشيخ الأعظم(قده) شبهة علمية حيث قال:- ( فإن قلت: إِذن الشارع في فعل الحرّم مع علم المكلف بتحريمه ..... )[1] .

وحاصل الشبهة:- هو أنه يشترط في حرمة الشيء أن يكون معلوم الحرمة أما إذا كان مشكوكاً فالأصل البراءة وفي باب العلم الاجمالي إذا كان يوجد إناءان أحدهما فيه خمر والآخر غير معلوم فحينما أتناول الأوّل فأنا لا أعلم بكونه حراماً ، فإذا لم أكن أعلم فالمناسب هو البراءة ، نعم بعد ذلك لو تناولته وتناولت الآخر فسوف أعلم بأنَّ الحرام قد تحقق ، ولكن حصول العلم بارتكاب الحرام فيما سبق ليس من أحد المحرّمات ، فعلى هذا الأساس حين الارتكاب أنا لا أعلم أنه حرام وبعد ارتكاب الثاني بساعة سوف يحصل العلم بأني قد ارتكبت حراماً جزماً لكن حصول العلم أو تحصيل العلم بارتكاب الحرام فيما سبق ليس من أحد المحرّمات[2] .

وفي باب الشبهة المحصورة المكلّف حينما يريد الارتكاب لا يعلم أنَّ هذا حرام فالمناسب هو الجواز ، وأيضاً الإناء الثاني حينما يريد أن يرتكبه هو لا يعلم بأنه حرام فالمناسب الجواز أيضاً ، نعم بعد أن ارتكابهما معاً سوف يعلم بأنه قد ارتكب الحرام ، وتحصيل العلم بأنه قد ارتكب الحرام فيما سبق ليس من المحرّمات.

والجواب:- إنَّ الملاك في التحريم لا ينحصر بهذا ، فصحيح أنَّ هذا ملاك - وهو أنَّ تعلم حين الارتكاب أنَّ هذا حرام - ولكن يوجد ملاك ثانٍ وهو أن يفترض أنك قبل الارتكاب تعلم بأنَّ ارتكاب أحد هذين الطرفين محرّم والقعل يقول ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) ، فمادمت تعلم بحرمة أحد الطرفين فنفس علمك بوجود وجوب الاجتناب عن أحد هذين الطرفين يلزمك بأن تجتنبهما معاً وهذا حكم عقلي وعقلائي ، بحيث لو ارتكبت واحداً منها وكان مصادفاً للحرام الواقعي لكنت مستحقاً للعقوبة حتى عند العقلاء فإنَّ هذا ملاك عقلائي لا أنه ملاك عقلي فقط.

فإذن في الشبهة المحصورة نفس العلم بوجود محرّم يكون لوجوب الاجتناب عن أحد الأطراف ملاك مستقلّ بنفسه لاستحقاق العقوبة لو ارتكبت وصادف الحرام ، فإذن العقل يقول لك لابد من تركهما معاً فإنَّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، إذن اندفعت هذه الشبهة.

قلنا إنَّ المعروف هو منجّزية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية[3] ، ولو قلت: إني سوف ارتكب وطرفاً واترك الطرف الآخر وعليه فلا تصير مخالفة قطعية هنا ، ولكن نقول: تجب الموافقة القطعية وذلك بتركهما معاً ، فإذن العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ، بل وينجّز وجوب الموافقة القطعية ، وقد يقال:- أنه ينجّز حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية بأن لا تترك الاثنين معاً وإنما تترك طرفاً واحداً أما البقية فيجوز لك ارتكابها ، فالموافقة القطعية ليست لازمة وإنما اللازم هو أنَّ المخالفة القطعية حرام ، فإذن توجد ثلاثة آراء.

وهنا كلام في أنَّ العلم الاجمالي هل ينجّز حرمة المخالفة القطعية بنحو المقتضي أو أنه ينجزها بنحو العلية التامة ؟ ، يعني بعد أن عرفنا أنَّ العقل يقول لا يجوّز المخالفة القطعية بارتكابهما معاً ونسأل العقل ونقول: هل يمكن للشارع أن يرخّص في ارتكاب المخالفة القطعية بأن يقول ( مادمت لا تعلم أنَّ هذا حرام فأجرِ أصل البراءة ، وذاك الثاني مادمت لا تعلم أنه حرام فأجرِ أصل البراءة ) ؟ فإذا قلنا لا يجوز للشارع أن يرخّص فهذا يصطلح عليه أنَّ العلم الاجمالي منجّز لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلّية التامة ، وإذا كان يجوّز الترخيص فيها فهذا يصطلح عليه بأنَّ العلم الاجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية بنحو المقتضي ، يعني لو لم يمنع مانع من قبل الشارع ، أما إذا كان يوجد مانع وقال الشرع طبق ( كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) وقلنا يمكن ذلك فحينئذٍ يصير التنجيز بنحو المقتضي ، أما إذا قلنا إنَّ هذا ليس بممكنٍ فهذا يعبّر عنه بالتنجيز بنحو العلّية التامة.

فإذا قلنا إنَّ المخالفة القطعية ليست حراماً فهل تصل النوبة إلى مسألة وجوب الموافقة القطعية وأنها واجبة أو لا أو أنه لا تصل النوبة إلى ذلك ؟

إنه لا معنى لذلك ، فنحن إذا جوّزنا المخالفة القطعية وجوّزنا ارتكاب الطرفين فلا تصل النوبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، فإذن طرح التساؤل عن وجوب الموافقة القطعية فرع أن نبني في المرحلة السابقة على أنَّ المخالفة القطعية محرّمة ، فإذا بنينا على حرمتها نأتي ونطرح السؤال بأنه هل تجب الموافقة القطعية - أي بتركهما معاً - أو يكفي ترك واحد ؟ ، فإني إذا تركت واحداً فسوف لم تتحقق المخالفة القطعية ولكن في نفس الوقت أيضاً لم تتحقق المخالفة القطعية ، فلم تتحقق المخالفة القطعية وكذلك لم تتحقق الموافقة القطعية ، فإذن السؤال يطرح فيما إذا بنيا على أنَّ المخالفة القطعية حرام ، أما إدا لم نبنٍ على ذلك فهو لا يطرح فإنه بالأولى لم تجب الموافقة القطعية .

فإذن الآن يفترض أنا بانون على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا بنينا على هذا فنطرح السؤال ونقول:- هل تجب الموافقة القطعية ، أو بالأحرى هل ينجّز العلم الاجمالي وجوب الموافقة القطعية ؟ فإذا قلنا نعم هو ينجّز وجوب المواقة القطعية فنطرح سؤالاً آخر:- وهو أنه هل ينجّزها بنحو لا يمكن للشارع أن يرخّص في ترك الموافقة القطعية ؟ ، وكيف يتحقق الترخيص من قبل الشارع في ترك الموافقة القطعية ؟ قد يقول قائل:- يعني أنَّ الشارع يقول لي طبّق أصل البراءة على كلا الطرفين ، ولكن نقول:-كلا فإنَّ الجواب ليس هذا فإنَّ أصل البراءة لو طبق على الطرفين معاً فهذا سوف يكون ترخيص في المخالفة القطعية ونحن بانون على الحرمة وإلا إذا لم نبنِ على الحرمة فلا يأتي الكلام عن الموافقة القطعية فالتفت إلى ذلك.

فإذن يلزم أن يكون الترخيص في واحد ، فحينما نسأل أنه هل يمكن الشارع أن يرخّص في ترك الموافقة القطعية يعني وذلك بالترخيص في ارتكاب أحدهما ، فإذا قلنا يمكن ذلك فهذا معناه أنَّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية بنحو المقتضي ، وإذا قلنا إنه لا يمكن أن يرخّص حتى في الواحد - كما ذهب إليه الشيخ العراقي(قده) - فهذا معناه أنَّ العلم الاجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية بنحو العلّية.

ونطرح شيئاً آخر:- وهو أنَّ الأصوليين بحثوا بحثين ففي باب العلم الاجمالي بحثوا في حرمة المخالفة ، أما بحث وجوب الموافقة فقد بحثه الشيخ الأعظم(قده) في مبحث القطع ، لأنَّ العلم الإجمالي مصداق من مصاديق القطع ، كما بحثوا هذا البحث مرّة ثانية في البراءة والاشتغال ، ولكن السؤال هو:- إننا لو كرّرنا البحث كلّه مرتين فهذا تكرار مخل وممل فماذا نصنع ؟ بحث الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل مسألة حرمة المخالفة القطعية في مبحث القطع ، وبحث مسألة وجوب الموافقة القطعية في البراءة والاشتغال ، فهو فصل بين المبحثين حتى لا يحصل التكرار ، وأما صاحب الكفاية(قده) فهو بحث الاثنين في القطع .

والمناسب ما صنعه صاحب الكفاية(قده) وإن لم يعلل ، لأنَّ حرمة المخالفة ووجوب الموافقة كلاهما بحثان مرتبطان بحجية القطع وأنَّ القطع حجّة في أي دائرة ؟ فهل هو حجّة في دائرة حرمة المخالفة القطعية فقط أو أنه حجّة في وجوب الموافقة القطعية أيضاً ؟ ، فكلا البحثين هما بحث عن شأن من شؤون القطع وبالتالي كلاهما يرتبط بالقطع فالمناسب هو ما صنع صاحب الكفاية.

فإذا بحثناهما هنا معاً فما الذي نتركه لمبحث البراءة والاشتغال ؟

نقول:- إن قلنا إنَّ العلم الاجمالي منجّز لحرمة المخالفة أو وجوب الموافقة بنحو المقتضي ، يعني يمكن للشارع أن يرخّص في المخالفة القطعية من خلال ( كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام ) أو ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) - أي هذه أدلة الأصول العملية - فنقول في مبحث البراءة والاشتغال نحن نلاحظ أدلة الأصول العملية هل لها قابلية أن يشمل كلا الطرفين أو ليس لها قابلية على ذلك ، وهذا البحث ليس شأناً من شؤون القطع وإنما هو من شؤون أدلة البراءة والاشتغال وأدلة الأصول العملية ، فنرجئ هذا البحث إلى هناك فإنَّ المناسب هو هذا.

ومن الواضح أنَّ هذا الكلام يأتي إذا بنينا على أنَّ العلم الاجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية بنحو المقتضي ، أما قلنا هو ينجّزها بنحو العلّية فسوف ينسدّ الباب هناك ولا بحث لنا ، لأنَّ أدلة الأصول لا يمكن أن تشمله ، فإذا قلنا هو ينجّز حرمة المخالفة القطعية بنحو المقتضي فحينئذٍ نبحث هناك أنه هل أدلة الأصول تشمل الأطراف أو لا ، أما إذا قلنا هو ينجّز بنحو العلّية التامة فلا مجال هناك للبحث.

وهكذا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، فإذا قلنا هو ينجّزها بنحو المقتضي فنذهب ونبحث بحث اثباتي في البراءة والاشتغال ونقول هل يمكن لأدلة الأصول العملية أن تشمل طرفاً واحداً من الطراف أو لا ؟ ، أما إذا قلنا إنه يجّزها بنحو العلّية التامة فلا يوجد مجال للبحث هناك عن مقتضى الأصول العملية.


[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج2، ص203، ط جديدة.
[2] وهو مثل أن يجلس الانسان ويفكر بانه استغاب فلان فإن تحصيل العلم هذا بانه استغاب فلان ليس بحرام، إنما الحرام هو ارتكاب الحرام حين ارتكابه أما تحصيل العلم بأنه ارتكب حرام فهو ليس بحرام.
[3] يعني بارتكابهما معاً.