الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/05/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

ولماذا يكون حكم العقل ليس بحجة عند الاخباري ؟

يمكن أن يقال:- إنَّ ذلك من باب الاختلاف في مسألة التحسين والتقبيح ، فبعض العقلاء يرون هذا الشيء حسناً وبعضهم يراه قبيحاً ، فهذا الاختلاف يدل على أنَّ العقل لا يحكم في هذا المجال ، إذ لو كان يحكم في هذا المجال لم يحصل اختلاف بينهم فإن العقول واحدة فحصول هذا الاختلاف يدل على الأقل على عدم حجية حكم العقل . هكذا يمكن أن يوجه ما ينسب إليهم.

وقد يشكل عليهم بإشكالين جاءا في كلمات العلمين الشيخ النائيني(قده)[1] والسيد الخوئي(قده)[2] :-

الاشكال الأوّل:- إنَّ العقل إذا لم يحكم في مسألة التحسين والتقبيح يلزم من ذلك عدم إمكان اثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ هناك مقدمة يتوقف عليها اثبات النبوة وهي أنه إذا أتى بمعجزٍ فسوف نضمّ مقدمة وهي ( قبح اجراء المعجز على يد الكاذب ) ، فيقبح على الله عزّ وجل ّ أن يجري المعجز على يد الكاذب ، فالطريق لإثبات نبوته عند المتكلمين هو ضمّ هذه المقدّمة ، فلو فرض أننا لم نسلّم بحكم العقل بالقبح والحسن فحينئذٍ هذه المقدّمة لا يمكن أن نأتي بها ، وعليه فلا يمكن اثبات نبوة أيّ نبيّ من الأنبياء.

وفيه:- إنَّ هذه الطريقة طريقة قديمة لإثبات النبوة ، بل ليست هي الطريقة المتداولة عندنا الآن ، فإذا ادّعى شخص دعوىً كبيرة فنحن نطالبه بالدليل ، وحينئذٍ هل نسلك هذه الطريقة لإثبات صدق دعواه ؟ إن هذه المقدّمة ليست في أذهاننا ، وإنما نسلك طريقاً آخر وهو حساب الاحتمال ، وذلك من خلال ثلاث مقدّمات نثبت من خلالها صدق هذا النبي ، ولنأخذ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كمثال والمقدمات هي:-

المقدمة الأولى:- التاريخ الأبيض الناصع له صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو الصادق الأمين ، فلم يسجّل عليه التاريخ انحرافاً في يومٍ من الأيام ، ولذلك كلّ واحد يدّعي دعوىً كبيرة فانظر إلى تاريخه أوّلاً فإنَّ التاريخ الناصع له تأثير في هذا المجال.

المقدمة الثانية:- إننا لم نسمع على مرّ التاريخ إنَّ الله عزّ وجلّ أجرى معجزاً على يد شخص كاذب في يوم من الأيام - فنحن لم نقرأ ولم نسمع ولم يدّعِ أحد ذلك - ، وهذا ليس من باب القبح وإنما هذا الشيء لم يقع .

المقدمة الثالثة:- إنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء بأشياء خارقة للعادة ومنها القرآن الكريم[3] .

فلو جمعنا هذه المقدّمات الثلاث فسوف تولّد اليقين أو الاطمئنان بأنه صادق عن دعواه ، فإذن القضية أجنبية عن مسألة قبح اجراء المعجز على يد الكاذب فإنَّ هذا لا يخطر في ذهننا أصلاً ، وإنما الطريق هو ما ذكرناه وهو طريق جيد.

فإذن هذا لا يسجّل نقضاً منها على ما ينسب إلى الاخباريين[4] .

الاشكال الثاني:- إنَّ اطاعة الله عزّ وجلّ واطاعة الأحكام الشرعية هي واجبة والمعصية محرمة ، وهذا كيف نثبته ؟ فهل نثبت ذلك بالشرع لأنَّ الله قال: ﴿ اطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ ؟ كلا فإنَّ هذا تسلسل ، أو أنك تثبته بالعقل من باب أنه حسن الطاعة للمنعم وقبح المعصية ؟ فإذا كان من خلال الطريق الثاني فبناءً عليه لابد وأن نبني على حجية حكم العقل بالحسن والقبح وإلا سوف ينسدّ باب الحكم بوجوب الطاعة وحرمة المعصية.

وفيه:- إننا أنا وأنت لماذا نطيع الله ؟ فهل نطيعه لأجل حسن الطاعة وقبح المعصية ؟ إنَّ هذا كلام شخص مثالي كأمير المؤمنين عليه السلام ، أما واقعنا فالذي يدعونا إلى الطاعة وترك المعصية هو الخوف من النار والرغبة في الجنة ولولا ذلك لما استقمنا ، فالمسألة ليست مسألة قبح المعصية وحسن الاطاعة وإنما مسألة خوف النار وجاذبية الجنة ، فإذن لا يسجّل هذا الاشكال على الاخباريين أيضاً.

تبقى قضيتان:-

الأوّلى:- كيف نردّ دليلهم وما نسب إليهم ؟

وفيه:- إنه يمكن أن نقول هناك أمور لا إشكال في حكم العقل بها وليس فيها اختلاف مثل حسن العدل والصدق وقبح الظلم والكذب ، فإنا لا نحتمل اختلاف المجتمعات فيها وإنما الاختلاف لعلّه في المصاديق فهل هذا الفرد من مصاديق الظلم أو ليس من مصاديقه وأنَّ هذا من مصاديق الصدق أو ليس من مصاديقه ، فليس من البعيد أنَّ الاختلاف هو إما اختلاف صغروي وإما ناشئ من العادات أحياناً ، فترى في بعض المجتمعات ممثلاً أنَّ الشخص إذا التقى مع صدقه يكون الترحيب بينهما بأن يضرب أحدهما أنفه بأنف الآخر ويرون ذلك حسناً وفي مجتمعٍ آخر يتصافحان ولكن هذه عادات مجتمعية وهي ليست مرتبطة بحكم القعل.

الثانية:- كيف نستدل على أنَّ حكم العقل بالحسن والقبح حجة وأنه ثابت ولا يمكن للشارع الردع عنه ، فهو لم يردع عنه ولا يردع عنه بل ولا يمكن أن يردع ؟

والجواب:- إنَّ نفس الدليل الذي ذكرناه في غير مجال الحسن والقبح نذكره هنا أيضاً ، يعني نقول:- إذا جزمنا بأن العدل حسنٌ وقطعنا بذلك فإذا أراد الشرع أن ينهى عنه فسوف نجزم بأنَّه ليس بحسنٍ فيلزم من ذلك اجتماع النقيضين إما واقعاً وفي نظر القاطع معاً أو على الأقل في نظر القاطع فقط ، فنفس ذلك المحذور الذي ذكرناه في باب الأحكام النظرية يأتي في باب الأحكام العملية من دون فارقٍ.


[1] أجود التقريرات، الخوئي، ج3، 67. تحت عنوان الجهة الثالثة، ط جديدة.
[2] مصباح الأصول، الخوئي، ج2، ص59- 60، ط جديدة.
[3] وقد يقول البعض منهم:- إنه كان ذكياً وكانت توجد عنده ايحاءات نفسية فكان يجلس بذكائه وغير ذلك فيرتب شيئاً، ولكن نقول:- هل الذكاء يبلغ إلى هذا الحد بحيث يكون كلامه مثل ﴿ لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ﴾ ؟!! .إن هذا الكلام ليس ناشئاً من الايحاءات ومن تفكير لإنسان ذكي عادي، وهكذا تعال واقرأ القرآن الكريم ليس من حيث بلاغته وإنما من حيث بلاغته ومن حيث الأمور الأخرى، فيحصل عندنا قطع، هذا إذا نظرنا إلى القرآن فقط أما إذاا نظرنا إلى معاجزه الأخرى النبي صلى الله عليه وآله استطاع أن يخرّج شخصاً بإسم أمير المؤمنين عليه السلام وهو مثال العدالة والاستقامة، فإذا أرت العادلة والاستقامة فهي متمثلة فيه، ولكن دعنا عن هذا الكلام لكي لا يصير كلاماً خطابياً
[4] وبالمناسبة الفت الانظار:- إلى أن بعض الخوة الاعزاء بذل جهوداً وصرف من عمره وقتاً في مجال علم الآثار القديمة للفراعنة وغيرهم وعلم الأديان ومن خلالها قد يمكن اثبات حقانية الدين الاسلامي وأن الدين الاسلامي ونبوة نبينا هي صحيحة وصادقة من غير مسألة حساب الاحتمال الذي ذكرناه، فمثلاً القرآن الكريم يقول ﴿ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً ﴾ فهامان كان موجوداً في زمان الفراعنة فكيف اطلع عليه نبينا صلى الله عليه وإله وسلم ؟ إنَّ علماء الآثار في هذا المجال يعرفون أن هذا الاسم وارد على الحجر الفلاني وأن هذا الشخص هو وزير فرعون وقد قال له كذا، ولكن هذه المعلومة سرّية لا يمكن لأي شخص أن يطلع عليها، فكيف أنبأ القرآن عنها، فهذا طريق لإثبات حقانية القرآن ونبوة نبينا صلى اله عليه وآله وسلم، وأهل البيت عليهم السلام كذلك كما في إخبارهم عن سفينة نوح وأين رست وأين سارت وغير ذلك فإنَّ كل هذا مسجّل في الاثار القديمة قبل ملايين السنين، وصاحب علم الآثار والأديان يعرفها، فإذا اخبر الامام الصادق عليه السلام بذلك فهذا يدل على أنهم أئمة منصوبون من قبل الله تعالى، وهذا علم من العلوم وأنا أحث على الاستفادة منه.