الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/05/11
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
ويردّه:- إنه لابد من توجيهها بشكلٍ وآخر ولو بأن يقال: إنَّ الرواية ناظرة إلى مسألة رمي الآخرين بالكفر أو غير ذلك ، فالامام عليه السلام يردع عن هذه الدائرة ، يعني لا ينبغي لك أن تتسّرع وتنسب الشخص إلى الكفر بل لابد وأن تسمع ذلك من الامام عليه السلام ، فنخصّصها بهذه الدائرة ولا نبقيها على اطلاقها أو عمومها بعرضه العريض.
ومن الواضح أنه يكفينا للردّ أن نقول:- إنَّ هذا الحوار والخطاب هو عن هذا المورد ، وبناءً على أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من انعقاد الاطلاق كما يبني عليه الشيخ الخراساني(قده) فلا ينعقد الاطلاق ، وعلى مسلكنا في باب الاطلاق تكون النتيجة هكذا ايضاً ، فعلى هذا الأساس إذا بنينا على هذا فواضح أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب هو مثل هذه القضايا وهي الرمي بالكفر لا أكثر من ذلك ، وأما إذا لم نبنِ على ذلك فلابد وأن نحملها على هذا وإلا سوف نخرج بنتائج غريبة لا يمكن قبولها ، من قبيل ضرب الوالد أو الوالدة أو سبهما أو شتمهما من قبل الولد هل هو جائز أو ؟ من الواضح أنه لا يجوز والمستند هو قوله تعالى ﴿ ولا تقل لهما أفٍّ ﴾ حيث إنه يدل بالأولوية على حرمة الأشد وهو الشتم والضرب وغير ذلك ، فعلى هذا المسلك يلزم أن نقول إنَّ هذا التعدي لا يجوز لأننا لم نسمع من الشرع أنَّ الضرب والشتم حرام وهذه الأولوية يحكم بها العقل ، فإذا لم تدخل العقل في البين فهذه النتيجة سوف لا نصل إليها فإنَّ العقل يحكم بنحو القطع والبداهة والجزم أنه إذا حرم قول أفٍّ لهما فيلزم أن يحرم الضرب والشتم ، وهذه قضية بديهية من العقل وهي حكم العقل القطعي بأنَّ هذا أولى بالحرمة ، فإذا لا يريد الاخباري الإيمان بإعمال القعل ونقتصر على ما قالته الرواية ونقتصر على ما نسمعه فنحن لم نسمع حرمة الضرب حتى نحكم بحرمته ، وافترض أنه لا توجد رواية على ذلك ولكن حتى لو لم تكن هناك رواية تحرّم الضرب فهل تتوقف في حرمة الضرب وتقول هو ليس بحرام ؟ كلا ، بل تقول هو حرام بلا إشكال ، لأنَّ حرمة قول أفٍّ يدل بالأولوية قطعاً على حرمة الضرب والحال أنَّ هذا لم نسمعه من الشرع.
وهكذا مثلاً إذا سأل شخص الامام عليه السلام فقال:- ( إنَّ ثوبي أصابته نجاسة ، فقال له الامام عليه السلام: اغسله ) فنتعدّى من الثوب إلى العباءة وإلى غيرها والحال أنَّ هذا لا نصّ فيه ، بل يلزم أن نلتزم بالحكم في خصوص ثوب السائل فقط لأنه هو مورد السؤال أما غيره فلا لأنَّه سأل الامام عيله السلام عن ثوبه فحينئذٍ يلزم غسل ثوب السائل أما ثوب غيره فل ، فإذن هنا أدخلنا عنصراً وهو الجزم بعدم الخصوصية وهذه قضية عقلية ، ويوجد الكثر من هذا القبيل.
فإذن حتماً لا يقصد من رواية: ( حرام عليكم أن تقولوا شيئاً ما لم تسمعوه منا ) هذا المعنى وإنما لابد من تضييقها ولا يمكن ابقاؤها على اطلاقها وإلا سوف تخرج بنتائج غريبة أنت لا تلتزم بها ، وقد قلنا إنَّ هذا الكلام يأتي إذا لم نتمسّك بأنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من انعقاد الاطلاق ، وأما إذا قلنا بذلك فالقدر المتيقن هنا هو رمي الآخرين بالكفر أو ما شاكل ذلك ، كما أنَّ السؤال والحوار هو عن ذلك فالاطلاق ينعقد بهذا المقدار لا أكثر.
إذن هذه الروايات التي ربما يستند إليها الاخباري قابلة للمناقشة كما اتضح.
بل ربما نضيف ونقول[1] :- إنك نظرت فقط إلى هذه الروايات وقلت إنَّ حكم العقل ليس بحجّة ولو حصل القطع فهو ليس بحجة ، ولكن نقول:- توجد نصوص أخرى تحكم بأنَّ العقل لابد من الأخذ به وتمدحه وأنه ما عُبِدَ الرحمن بمثل العقل أو ما شاكل ذلك بحيث تشجّع على العقل وهذه تدل على أنَّ العقل حجّة في الجملة ، فإذا كنت تأخذ بالنصوص فلابد أن تأخذ بهذه النصوص أيضاً.
والنتيجة:- هي أنه لابد وأنك تجمع بشكلٍ من الاشكال بين هذه الروايات ولا أقل قل هذا المقدار وهو أنَّ هذه الروايات التي تنهى عن العقل هي تنهى عنه فيما إذا لم يصل حكم العقل إلى درجة القطع واليقين وإنما كان مجرّد ظن كما كان هو المتداول في المدرسة المخالفة فإنهم يأخذون بالقياس والمصالح المرسلة وما شاكل ذلك وكلّ هذه ظنون وليست قطعاً ، نعم لو كان هناك قطع فنحن نوافقهم في ذلك ولكن القطع ليس بموجود فلذلك لا يؤخذ به ، فنحمل الروايات الناهية عن الأخذ بما حكم به العقل على الظنون العقلية ، ونحمل الروايات المادحة للعقل على صورة القطع ، وحينئذٍ يحصل الوئام.
والروايات الواردة في مدح العقل هي:-
من قبيل:- ما ورد عن الامام الصادق عليه السلام:- ( حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل )[2] .
ومن قبيل:- عن أبي جعفر عليه السلام:- ( لما خلق الله العقل قال له: أقبٍل فأقبل ، ثم قال: أدِبر ، فأدبر ، فقال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك إياك آمر وإياك أنهى وإياك أثيب وإياك أعاقب )[3] .
ومن قبيل:- رواية الحسن بن الجهم قال:- ( سمعت الرضا عليه السلام يقول: صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله )[4] .
ومن قبيل:- رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام :- ( إنما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا )[5] ، وغير ذلك من الروايات.
بل يمكن أن نزيد شيئاً ونقول:- إنَّ هذه القاعدة الكلّية بهذا الشكل - وهو أنَّ كلّ قطع من العقل لا يمكن الأخذ به - أليس هو قضية عقلية أيضاً وليست مستندة إلى مقدّمات شرعية بحيث تخرج بنحو قضية كلية ؟!! فحينئذٍ يرد الاشكال على نفس هذه القضية.
وأما القضية الثالثة[6] :- قد ذ كرنا فيما سبق أنَّ حكم القعل له مجالان المجال النظري والمجال العملي ، والمجال النظري يصطلح عليه بـ ( حكم العقل النظري ) وقد ذكرنا له ثلاثة موارد وهي ادراك الملاكات وادراك باب الملازمات وادراك الامتناع والاستحالة ، وقد بيّنا ذلك فيما سبق ، وهناك حكم عقل عملي يعني يرتبط بجنبة العمل ، وينحصر بمورد واحد وهو تحسين الأشياء وتقبيحها العقليين ، فمعنى إنَّ هذا الشيء حسن يعني ينبغي فعله ، ومعنى أنَّ هذا الشيء قبيح يعني ينبغي تركه ، فإذن الحسن والقبح حكمان عقليان يرتبطان بجنة بالعمل ، ومن الواضح أنه عند المتكلمين يطلق عليه الحسن والقبح ، وأما عند الفلاسفة فيطلق عليه بالخير والشر ، وعند علماء الأخلاق يطلق عليه بالفضيلة الرذيلة ، وهذا ليس بمهم ، إنما المهم هو أنه قد ينسب إلى الاخباريين أنَّ حكم العقل العملي - الذي هو عبارة عن حكمه بالتحسين والتقبيح - أنه ليس بحجّة.
وفي هذا المجال نقول:- ماذا تقصدون من ذلك ؟
فمرّة يقصدون:- أنَّ الحسن والقبح ليسا من شؤون العقل وإنما الحسن ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبّحه الشرع.
وجوابه:- إنَّ هذه المقالة هي مقالة الأشاعرة ، فما يرد على الأشاعرة يرد عليهم.
ومرّة يقصدون:- إنَّ العقل وإن حكم بأنَّ هذا ينبغي فعله وذاك ينبغي تركه لكن حكمه هذا ليس بحجة ، فكما أنَّ حكم العقل النظري ليس بحجة فهذا أيضاً ليس بحجة ، فإذن ليست المسألة أنَّ المدار في الحسن ما حسّنه الشارع وفي القبيح ما قبّحه الشارع وإنما يحكم العقل بذلك ولكنَّ حكمه ليس بحجّة.