الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/05/09
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
ثالثاً:- إنَّ هذا القطع بعد أن حصل لا يمكن أن نقول له هذا ليس بحجة من جهة أن العلم تارة ينظر إليه من الزاوية الأصولية وأخرى من الزاوية المنطقية أو الفلسفية ، فبلحاظ المنطق لعلهم يخصّصون العلم بالجزم فهو جازم بأنه يكون مطابقاً وهذا لا يجزم بكونه مطابقاً ، هذا إذا اخذنا الجزم بالمعنى المنطقي أو الفلسفي ، ولكن كلامنا هو في الجزم بالمعنى الأصولي الذي هو عبارة عن نفس القطع بما هو قطع لأنَّ المنجّز بنظر العقل هو كلّ قطعٍ ولا يأخذ العقل في المنجّزية اشتراط أن يكون مضمون الحقّانية ومطابقاً للواقع ، كلا بل مادام قد حصل لك قطع أيها المكلف فهو حجة في حقك بمعنى أنه منجّز ومعذّر ، وهذا لا يدور مدار أن يكون مطابقاً ومضمون الحقانية والمطابقة.
فإذن حصل خلطٌ بين العلم بالمعنى الأصولي والعلم بالمعنى المنطقي أو الفلسفي ، ففي المعنى الفلسفي أو المنطقي يؤخذ العلم بأنه عبارة عن الجزم زائداً المطابقة فإذا لم تكن هناك مطابقة فيقول لك إنَّ هذا جهل وليس علماً ، أما بالمعنى الأصولي الذي يكون منجّزاً فهذا هو بمعنى الجزم والقطع مع قطع النظر عن كونه مطابقاً للواقع أو ليس بمطابق.
فعلى هذا الأساس لا معنى لما ذكروه من أنَّ القطع لدى المكلّف ليس مضمون الحقانية لكون درجة اصابته بدرجة تسعين بالمائة مثلاً إذا لاحظنا جميع القطوع ، فإنَّ هذا الكلام لا مجال له ، فإنه يرد فيما إذا كان المقصود من العلم هو العلم بالمعنى المنطقي أو الفلسفي ، أما بالمعنى الأصولي فلا يرد هذا الكلام ، وكأنه حصل خلط بين هذين المصطلحين . هذا على الصياغة الثانية.
وأما إذا كان مقصودهم الصياغة الأولى فنقول:- إنَّ المناسب أن لا يحصل قطعٌ اصلاً ، ولكن لو حصل القطع فأنتم أيها الاخباريون أقصى ما تقولونه لكل انسان ( أيها الناس المناسب أن لا يحصل لكم القطع ) ، ولكن لو حصل لهم القطع فبعد أن حصل فنقول إنه بعد حصوله سوف يكون حجّة.
فإذا كان مقصودكم أنه ليس مضمنون الحقّانية فيرد عليه ما أشرنا إليه من أنَّ مقصودنا هو العلم بالمعنى الأصولي دون المنطقي أو الفلسفي ، وإن كان مقصودكم الصياغة الأولى فنقول إنه لو حصل القطع فلا يمكنكم أن تقولوا هو ليس بحجّة.
رابعاً:- إنك تقول إنَّ كل قطعٍ ناشئٍ من مقدّمات عقلية فهو ليس بحجة إما لأنَّ المقدمات العقلية كثيرة الخطأ أو أنه ليس مضمون الحقّانية مائة بالمائة ، ولكن نحن نقول:- إنَّ هذه القضية التي انتهيت إليها[1] هل أنت قاطع بها أو لا ؟ فإن قال نعم أنا قاطع بها فنقول له ؟ هل قطعك هذا ناشئ من مقدّمات شرعية من كتاب وسنّة ؟ كلا هي ليست كذلك فعاد الاشكال إليه ، وإنما هذا القطع الذي حصلت عليه هو مقدّمات عقلية أيضاً ، فإنَّ العقل حكم وقال ( مادامت المقدّمات العقلية كثيرة الخطأ فيبغي أن لا يحصل قطع ) ، وكل هذا الكلام هو من العقل وليس من الشرع ، وهكذا ( ليس مضمون الحقانية ) ، لأنه إذا كانت القطوع مائة قطع فيحتمل خطأ أحدها ، فإذن كلّ هذا الكلام ليس من الكتاب ولا من السنّة فيرد عليك أنَّ قطعك هذا قد حصل من غير المقدّمات الشرعية فهو ليس بحجة باعترافك.
ولو قال:- إنَّ هذا القطع فقط هو حجة .
فنقول له:- إنَّ التحصيص للقاعدة العقلية الكلية ليس بممكن.
أما دليله الثاني[2] :- فلابد من عرض الأخبار لنلاحظ كلّ خبرٍ بشكل مستقل ، وهي على طوائف:-
الطائفة الأولى:- ما دل على تحريم القول بغير علم:-
من قبيل:- موثقة سماعة عن أبي الحسن موسى عليه السلام:- ( إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها[3] وأهوى بيده إلى فيه ، ثم قال: لعن الله .... كان يقول: قال علي وأقول أنا وقالت الصحابة وقلت )[4] .
وتقريب الدلالة أن يقال هكذا مثلاً:- إنه جاء في الرواية تعبير ( إذا جاءكم ) والتعبير بـ ( جاء ) لا يستعمل بأنه جاء من العقل وإنما جاء من طرف النقل ، يعني ( إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعملون تعلمون فها ) فحصر الحجية بالذي يجيء والذي يجيء هو خصوص المنقول وأما القطع الحاصل من القطع والمقدّمات العقلية فلا يصدق عليه عنوان المجيء ، فإذن الرواية تدل على عدم حجية القطع الذي نحصل عليه من غير طريق المجيء ، أي عدم حجية القطع الحاصل من مقدّمات عقلية.
والجواب:-
أوّلاً:- إنها تدل على أنّ كل جائي ليس من الصحيح أن تقبله ، بل ما علمت بأنه جاء من طرفنا فاقبله وأما الذي لا تعلم بأنه جاء من طرفنا بل جاء من طرف الغير فلا تقبله ، فإذن هي ناظرة إلى ما جاء وأنه ليس ينبغي قبول كلّ ما جاء بل عليك أن تميّز بين الجائي فمع العلم بكونه منّا فاقبله وما ما كان من دون علم فلا تقبله ، ولا تدل على أنَّ غير الجائي لا تقبله أصلاً ، فهي إذن ليس فيها دلالة على ذلك ، فالجائي اقبله إذا كان هناك علم به ، أما أنه لا تقبل الجائي من غير النقل وإنما جاء من العقل بنحو العلم فليس فيها دلالة على ذلك ، وهذه نكتة ظريفة ينبغي الالتفات إليها.
ثانياً:- وهي أنَّ الرواية دلت على حجية العلم وأن العلم خذ به ، يبقى حينئذٍ قد يقول قائل: إنَّ هذا العلم لابد أن يكون حاصلاً من طريق المجيء والنقل وليس كلّ علم ، فإذن لابد أن نحمل المجيء على نحو الطريقية لا أنَّ له موضوعية.
وهذا كلام مقبول فإنه ليس من البعيد ذلك ، ولكنك لا تستطيع أن تُلزِم به الطرف الثاني.
الطائفة الثانية:- وهي ما دل على النهي عن القياس ، وهي روايات كثيرة:-
من قبيل:- رواية أبي شيبة قال:- ( سمعت أبي عبد الله عليه السلام يقول:- ظل علم بن شبرمة عند الجامعة املاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي عليه السلام بيده إنَّ الجامعة لم تدع لأحدٍ كلاماً فيها علم الحلال والحرام ، إنَّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقف إلا بعداً ، إنَّ دين الله لا يصاب العقول )[5] .
بتقريب:- أنه عليه السلام قال إنَّ الأحكام توجد جميع في الجامعة فإذا أردت حكماً فلابد أن تأخذه من الجامعة ، أي من خلال الأئمة عليهم السلام فإنَّ الجامعة موجودة عندهم أما الطريق الآخر وهو طريق العقل والمقدّمات العقلية فلا.
وفيه:- إنَّ غاية ما يستفاد من هذه الرواية هو:-
أوّلاً:- إنَّ المراد هو أنه لابد أن تتبع أهل البيت عليهم السلام لا أنك تذهب إلى طريقٍ آخر في مقابل طريقهم ، أما لو فرض أنا لم نحصل من طريقهم على حكم هذا الشيء كما في مسألة مقدمة الواجب هل هي واجبة أو لا فإنه لا يوجد حكم ذلك في الروايات فهل في مثل هذه الحالة التي نستند فيها إلى حكم القعل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته مشمول للردع المذكور في الرواية الشريفة[6] ؟ إننا لا يمكن أن نستفيد الردع من هذه الرواية عن مثل هذه الحالة.