الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/05/04
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
الجواب الثالث:- ما قد يخطر إلى الذهن ، وهو أن نقول: إنَّ الحكم بوجوب الجهر بالقراءة مثلاً مطلق ولم يجعل في حق العالم فقط بل جعل في حق مطلق المكلف ولكن المولى يقيد وجوب الامتثال بما إذا كان الشخص عالماً فيقول له هكذا مثلاً:- ( يجب على المكلف الجهر في قراءته في الصلاة ) ثم يقول ( ولكن إذا اتى بها اخفاتاً جاهلاً بلزوم الجهر فلا تجب عليه الاعادة فأنا أرفع عنه الاعادة ) ، فهذا ناظر إلى مرحلة الامتثال ، فالحكم مطلق إلا أنه في مرحلة تفريغ الذمّة لا يوجب عليه الاعادة مادام جاهلاً بوجوب الجهر تسامحاً منه في مرحلة الامتثال بعد تشريعه الحكم لطبيعي المكلف.
وقد تقول:- ما هي ثمرة وفائدة جعل الحكم مطلقاً في البداية ثم بعد ذلك ترفع وجوب الامتثال من جديد – أي الاعادة - ، فإذا كان الأمر كذلك فاجعله من الأوّل مقيداً بالعالم ؟
قلت:- إنَّ الثمرة تظهر في وجوب التعلّم واستحقاق العقوبة فإنَّ هاتان ثمرتان ، يعني بعبارة أخرى: إنه مادام قد جعل الحكم في حقّ طبيعي المكلف فيلزم على كل إنسان أن يتعلّم حتى الجاهل ، بخلاف ما إذا كان قد جُعِل من البداية في حق العالم فالجاهل آنذاك لا يلزمه التعلم ، فإذا فرض أنَّ المولى يريد أن يندفع العبد نحو التعلّم فيجعل الحكم على طبيعي المكلف حتى يندفع المكلف نحو التعلّم وإذا لم يمتثل بالشكل الصحيح فالمولى له الحق في أن يعاقبه.
وفيه:- إنًّ الحكم مادام مطلقاً في مرحلة الجعل فلا معنى للتساهل في مرحلة الامتثال فإنَّ هذا تنافٍ ، فمادام الحكم مطلقاً من البداية فالمناسب آنذاك جعل وجوب الاعادة في حقّ طبيعي المكلف لأنَّ الحكم ثابت لطبيعي المكلف وعدم إيجاب الاعادة قد يفهم منه أنَّ المصلحة للفعل ناقصة ، فإذا كانت المصلحة في الفعل والامتثال ناقصة فجعله من الأوّل مطلقاً يكون من دون مصلحة كاملة.
والخلاصة:- إنَّ هذا نحوٌ من التهافت - يعني يكون الجعل مطلقً من البداية ثم ينفي وجوب الاعادة إذا لم يمكن عالماً - بل من المناسب تخصيصه من البداية بالعالم ومجرّد وجود أثر وأنه يجب عليه التعلّم ويستحق العقوبة لا يكفي لتبرير جعله مطلقاً.
فإذن هذا الجواب فيه تأمل ، والمناسب هو ما ذكرناه سابقاً من أخذ مرحلة الفعلية مقيدة بالعلم بأصل الجعل لا أنَّ وجوب الامتثال يقيد ، وإنما مرحلة الحكم الفعلي تكون مقيدة بالعلم بأصل الجعل ، فالجواب الذي ذكرناه أوّلاً هو التام دون هذه الأجوبة الثلاثة.
وبهذا ننهي حديثنا عن هذا الموضوع.
الدليل العقلي:-
الدليل العقلي مصطلح أصولي يراد به كل حكم عقلي يستفاد منه في تحصيل حكم شرعي ، فنفس الحكم يعبّر عنه بالدليل العقلي ولكن لا كل حكم عقلي وإنما بشرط أن يستفاد منه تحصيل حكم عقلي ، وقد قلنا إنَّ هذا مصطلح أصولي وإلا فبقطع النظر عن علم الأصول نفس حكم العقل لا يصطلح عليه الدليل العقلي ولكن في علم الأصول يصطلح هكذا ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.
إذن إذا كان الحكم العقلي لا يستفاد منه في تحصيل حكم شرعي من قبيل ( الكل أكبر من الجزء ) فهذا لا يصطلح عليه بالدليل العقلي ، أو من قبيل ( كل أربعة هي زوج وكل اثنين هي زوج وكل ثلاثة هي فرد ) فهذه أحكام عقلية لكن لا يستفاد منها أحكاماً شرعية فهذه لا يصطلح عليها في علم الأصول بالدليل العقلي.
إذن الدليل العقلي هو خصوص الحكم العقلي الذي يستفاد منه حكم شرعي ، من قبيل حكم العقل باللازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فإنَّ هذا حكم عقلي ، وبضمّه إلى مقدمة أن تهيئة جواز السفر مقدّمة إلى الحج فحينئذٍ سوف يثبت الوجوب الشرعي لتهيئة الجواز ، ويصطلح على حكم العقل بهذه الملازمة بالحكم العقلي ، وهكذا حكم العقل بالملازمة بين جوب الشيء وحرمة ضدّه ، فإنَّ أصل الملازمة مما يحكم به العقل ، ونستنتج من ذلك أنَّ هذا الشيء إذا كان ضداً فسوف يكون حرماً شرعاً ، فهذه حرمة شرعية نستفيدها من هذه الملازمة العقلية.
فإذن هذا الحكم العقلي هو دليل عقلي ، وهكذا الحكم العقلي بقبح الظلم والكذب والخيانة والبهتان بناءً على ضمّ قاعدة ( كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ) فحينئذٍ بضمّ هذه القاعدة إلى هذا القبح نستنتج أنَّ الكذب إذن حرام شرعاً والخيانة حرام شرعاً ..... وهكذا.
إذن لحد الآن فهمنا أنَّ الدليل العقلي مصطلح أصولي يراد به كل حكم عقلي يستفاد منه في الحصول على حكم شرعي.
وهناك قضية ثانية:- وهي أنَّ الحكم العقلي على نحوين ، فتارة يكون ظنياً ، وأخرى يكون قطعياً ، وقد اتفقت كلمة الامامية على أنَّ الحكم العقلي إذا كان ظنياً فهو ليس بمعتبر ، ومن هنا يرفضون الاستحسان والقياس والمصالح المرسلة ومقاصد الشريعة وغير ذلك لأنَّ كلّها مبنيّة على الظن والظن ليس بحجة ، وأما إذا كان حكم العقل قطعياً فهو الحجة ، ولكن بعد اتفاقهم على أنَّ الحكم العقلي الظني ليس بحجة اختلفوا في حكم العقل القطعي وأنَّ مطلق الحكم العقلي القطعي حجّة ولو كان نشئاً من مقدّمات غير شرعية أو بشرط أن يكون ناشئاً عن مقدّمات شرعية ؟ ، يعني هل القطع حجة ولو أنه نشأ من مقدّمات غير شرعية أو هو حجة بشرط أن ينشأ من مقدّمات شرعية ؟
المنسوب إلى الاخباريين أنه إذا لم ينشأ من مقدّمات شرعية فهو ليس بحجة ، بينما الأصوليون ذهبوا إلى أنَّ مطلق القطع العقلي حجّة سواء نشأ من مقدمات كلّها شرعية أو نشأ من مقدّمات كلّها عقلية ، فهو مادام قطعاً فيكون حجة.
وهناك كلام وقع بين العلمين الشيخ الأعظم والشيخ الخراساني في أنه ماذا يستفاد من كلمات الاخباريين فهل أنَّ نزاعهم صغروي أو كبروي ؟ يعني هم يريدون أن يقولوا إذا كانت المقدّمات عقلية وليست شرعية فلا يحصل قطع أصلاً بل يحصل ظن ؟ ، هكذا نسب إليهم الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية[1] فجعل النزاع صغروياً ، يعني أنهم يقولون إذا لم تكن المقدمات شرعية فلا يحصل قطع أصلاً لا أنه يحصل ولكنه ليس بحجة ، بينما الشيخ الأعظم(قده)[2] استظهر وفهم أنَّ نزاعم كبروي يعني أنه قد يحصل قطع من المقدّمات العقلية ولكنه ليس بحجّة ، وهذه قضية جانبية قد أشرنا إليها وهي ليست مهمة.
ثم إنَّ الحكم العقلي تارةً يرتبط بجنبة العمل ، وأخرى لا يرتبط بها ، فإذا ارتبط بجنبة العمل اصطلح عليه بحكم العقل العملي ، وإذا كان يرتبط بجنبة النظر فيصطلح عليه بحكم العقل النظري.
أما حكم العقل العملي الذي يربط بجنبة العمل:- فينحصر بموردٍ واحد لا أكثر ، ولكنه واحد له دائرة وسيعة ، وهو حسن الأشياء وقبحها ، فالحسن والقبح داخل تحت حكم العقل العملي ، فإنَّ الحسن - أي حسن العمل - معناه أنه ينبغي أن يُفعَل ، والقبح - أي قبح العمل – معناه أنه ينبغي أن لا يُفعَل ، فالحسن والقبح لا يتعلقان إلا بالعمل ولا يمكن أن يتّصف غير العمل بالحسن والقبح ، وهذه قضية واضحة.
وأما حكم العقل النظري:- فله مصاديق متعددة نذكر منها ثلاثة ، ولعله بالتأمل قد يعثر على موارد أخرى ، لأنَّ هذه الموارد مبنيّة على الاستقراء وليست مبنيّة على النفي والاثبات حتى تقول إنَّ الموارد هي هذه لا غيرها:-
المورد الأوّل:- ادراك العقل لملاك الحكم الشرعي – يعني المفسدة - ، كما هو عند بعض الناس فإنه يقول إنَّ هذا الشيء فيه مفسدة حتماً ، فإنَّ العقل من الواضح أنه يدرك أنَّ في ذلك الشيء مفسدة ، كبيع عملةٍ بعملة ثانية مثلاً ، فادراك المفسدة بنحو القطع هو ادراك لشيءٍ لا يرتبط بالعمل وإنما هو ادراك لوجود مفسدة ، نعم بعد ادراك العقل لقضية ثانية وهي الملازمة بين كلّ ما فيه مفسدة وبين الحرمة - إذا كان هكذا ملازمة موجودة - فحينئذٍ سوف يستفيد حرمة هذا الشيء ولكن هذه قضية ثانية ، ولكن المهم هو أنَّ حكم العقل بوجود مفسدة في ارتكاب هذا الشي كما في الكذب مثلاً ولو بنحو التورية فهذا ادراكٌ للملاك وهو لا يرتبط بجنبة العمل.
المورد الثاني:- وهو حكم العقل بالملازمة - الذي ذكرناه قبل قليل - سواء كانت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو بين وجوب الشيء وحرمة ضدة أو سائر اللازمات ، فإدراك العقل للملازمة هو إدراك لقضيةٍ لا ترتبط بجنبة العمل ، فهو حكم عقلي نظري لا يرتبط بجنبة العمل ، نعم نستفيد من هذا الادراك بعد ذلك في المجال الشرعي لكن هذه قضية ثانية ، ولكن هذا الادراك ليس ادراكاً لقضية ترتبط بجنبة العمل.
المورد الثالث:- ادراك العقل لاستحالة بعض الأمور وإمكان بعض الأمور الأخرى ، من قبيل حكمه باستحالة اجتماع الأمر والنهي ، فإنَّ استحالة اجتماعهما ليست قضية ترتبط بجانب العمل ، فإدراك العقل لهذه الاستحالة هو ادراك لقضية لا تربط بجانب العمل ، فهذا الادراك هو حكم عقلي نظري ، نعم قد نستفيد منها شيئاً آخر فنقول إذا استحال اجتماع الأمر والنهي فبما أنه يوجد أمر هنا فيستحيل أن يكون هناك نهي فإذن ليس هناك نهي ، فاستفدنا قضية شرعية ولكن هذه قضية ثانية ، والمهم أنَّ هذا الحكم العقلي بالاستحالة هو حكم عقلي نظري.
وهكذا حكم العقل بإمكان الترتّب[3] ، فنحن نستفيد منه أنه إذا عصى المكلف الازالة نستفيد إمكان وجود أمر ترتبي في حقه ، وحيث إنَّ الامكان يلازم الوقوع[4] فإذن سوف نستفيد من الحكم بالامكان قضية شرعية وهي وقوع الأمر الترتّبي ، ولكن نفس حكم العقل بالامكان لا يرتبط بجنبة العمل بل هي قضية نظرية.