الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/04/28
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم - مبحث القطع.
أقول:- نحن نوافق العلامة(قده) استحالة أخذ العلم في موضوع الحكم ولكن لا للزوم الدور بالشكل الذي ذكره فإنه مندفع كما أوضحنا ، بل لوجهين آخرين:
الوجه الأوّل:- إنَّ لازم أخذ العلم في موضوع الحكم أنَّ العلم سوف يولّد المعلوم وهذا شيء لا يمكن أن يصدّق به العاقل ، فإنَّ العلم بوجود الأسد مثلاً لا يوجِد الأسد وإنما يكشف عن وجوده ، فدور العلم دائماً في النظرة العقلائية هو دور الكاشف عن المعلوم لا دور الموجِد له ، فلو فرض أنه أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم فمتى مادمتُ لا أعلم فلا حكم ومتى ما علمت وجِد الحكم فصار دور العلم دور الموجِد للشيء المعلوم لا دور الكاشف وهذا لا يصدق به العاقل ، فعلمك بالأسد مثلاً لا يوجد الأسد وإنما يكشف عن الأسد ، ونفس الأمر ننقله إلى العلم ، فلو كان العلم بالحكم مأخوذاً في موضوع الحكم فمعناه أنه قبل العلم بوجوب الجمعة لا وجوب لها وبمجرد أن تعلم فسوف يوجد وجوب الجمعة ، فصار دور العلم دور الموجِد للحكم وهذا شيء باطل ولا يمكن أن يصدق به عاقل.
وهذا البيان يحتاج إلى تتمة وإلا فمن دونها لا ينفع هذا الكلام فإنه قد يقال:- افترض أنه لا يصدّق به عاقل ولكن مادام تشريعه ممكناً بالذّات فسواء صدّق به العاقل أم لم يصدق هذا لا يؤثر ؟
ولكن نقول:- إنَّ ما لا يصدق به العقلاء لا يمكن تشريعه ، فإنه لغوٌ ، إذ ما الفائدة في تشريع شيءٍ لا يمكن ان يصدّق به العقلاء ، فالتشريع يكون باطلاً من هذه الجهة.
الوجه الثاني:- يلزم استحالة العلم بالأحكام ، فأنا لا أتمكن أن أعلم بالحكم إذا أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم وذلك للزوم الدور في مرحلة العلم.
إذن وصول العلم غير ممكن لا أن تشريعه غير ممكن وذلك لمحذور الدور ، وتشريع حكمٍ لا يمكن وصوله إلى المكلف لغو وبلا فائدة.
أما كيف يلزم الدور في مرحلة العلم في الحكم ؟
إنَّ الوجه في ذلك:- هو أنني الآن أريد أن أعلم بالحكم بوجوب الجمعة مثلاً ، ونفترض أنَّ وجوب الجمعة مختص بالعالم ، فأنا إذا أردتُ أن أعلم بوجوب الجمعة فلابد أن أعلم بموضوع وجوب الجمعة ، فأنا آنذاك أعلم بالوجوب إذ العلم بالوجوب فرع العلم بموضوعه حتى يصير علماً بالحكم ، وإلا إذا لم أعلم بموضوع الحكم لا يحصل علم ، فدائماً علمنا بالأحكام يكون من خلال موضوعاتها ، فعند العلم بالاستطاعة نصير عالمين بوجوب الحج ، وإلاّ من دون العلم بالاستطاعة لا يكون علماً بالوجوب ، فالعلم بوجوب الجمعة متوقف على العلم بموضوع الجمعة ، وموضوع وجوب الجمعة قد فرض هو العلم بالوجوب ، فصار العلم بوجوب الجمعة موقوفاً على العلم بالعلم بوجوب الجمعة ، يعني على العلم بموضوع الجمعة والموضوع هو العلم بوجوب الجمعة فصار العلم بوجوب الجمعة موقوفاً على العلم بالعلم بوجوب الجمعة ، وحيث إنَّ العلم بالعلم عين العلم بوجوب الجمعة إذ العلم لا يعلم بعلم آخر وإنما هو حاضر في نفسه بالذهن ولذلك العلم بما هو موجود في الأذهان علم حضوري بذاته لا بعلم آخر ، فصارت النتيجة هي أنَّ العلم بوجوب الجمعة موقوف على العلم بوجوب الجمعة فلزم الدور في مرحلة العلم ، إذن لا يمكن العلم بالأحكام وتشريع حكمٍ لا يمكن العلم به مستحيل.
إذن ليس المحذور محذور الدور الذي أبرزه العلامة ، لكنه مع ذلك يمكن اثبات الاستحالة من طريق آخر وهو من الوجهين اللذين ذكرناهما.
كيف نوجه الوجدان؟
وحاصل ما نقوله:- إنَّ ما ذكر من استحالة أخذ العلم في موضوع الحكم شيء وجيه للمحذورين اللذينِ أشرنا إليهما ، ولكن نحن نشعر بالوجدان كعقلاء أنه يمكن للمولى أن يشرّع الحكم بقيد أن يكون معلوماً لكن الصناعة العلمية وقفت أمام الوجدان ، بل نقول أكثر وهو أنه ليس فقط الوجدان يحكم بذلك وإنما هناك وقوع والذي هو أكثر من الوجدان ، فإنَّ الجهر والاخفات والقصر والتمام إنما فيما إذا كان يعلم ذلك وهذا شيء قد دلت عليه الروايات ، فإنَّه تجب عليه اعادة الصلاة إذا علم بالحكم ، فيلتزم هنا بأنَّ العلم له مدخلية ، وكما قلنا إنَّ الوجدان يميل إلى ذلك لكن البرهان والصياغة العلمية ترفض هذا .
فإذن كيف نوفّق بين الوجدان وبين البرهان على الاستحالة ؟
قد تذكر بعض الوجوه في هذا المجا لكننا نذكر الوجه الصحيح:- وهو ما أشار إليه السيد الشهيد(قده) ، وحاصله:- أن يؤخذ العلم بالجعل في مرحلة المجعول ، وبعبارةٍ ثانية: إنَّ المولى في عالم الانشاء في باب الحج مثلاً يقول ( يجب الحج على كلّ من استطاع ) وهذا كجعل ، ، فإذن الاستطاعة أخذت شرطا في وجوب الحج ، ولكنها أُخذت في عالم الجعل ، وآنذاك متى يصير الحكم فعلياً بحيث يكون وجوباً فعلياً يعني بحيث يقال أنت يجب عليك الحج أو عند الاستطاعة تقول أنا في هذه السنة صار الحج واجباً عليٍّ ؟ ، يعني تنسب الوجوب إلى نفسك فإن هذه مرحلة الفعلية فإنك قبل أن تستطيع لا تنسبه إلى نفسك.
إذن في مرحلة الجعل الحكم ثابت في حقّ الجميع فهي قضية حقيقية ، أما متى يصير الفعل منتسباً إليه ؟ يصير منتسباً إليه إذا صار مستطيعاً بالفعل ، فمتى ما تحققت الاستطاعة بالفعل خارجاً صار الحج واجباً ، هنا كذلك يقول المولى ( يجب الجهر في القراءة على من علم بالوجوب المذكور ) ، فمن علم يكون الوجوب فعلياً في حقه ، أما قبل أن يعلم فليس هناك وجوباً فعلياً في الجعل ، فإذا علمت صار الوجوب فعلياً وإذا لم تعلم لا وجوب فعلي عليك ، وهذا ليس فيه محذور ، فالعلم بالجعل شرط لا في الجعل حتى يلزم الدور بل العلم بالجعل شرط في تحقق الفعلية ، كما في الاستطاعة يكون تحقق الاستطاعة شرط لا في الجعل بل في الفعلية ، فهنا كذلك العلم بالوجوب الجهر شرط في فعلية وجوب الجهر ، فلا دور ولا محذور في ذلك .