الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/04/27
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- قيام الأصول مقام القطع ، أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم - مبحث القطع.
والصحيح في المقام أن يقال:- إنَّنا نرفض الطريقة التي سار عليها العلمان ، فإنهما افتراضا وجود دليل لفظي يدل على حجية الأمارة ، فما دام دليلاً لفظياً يلزم من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ثبوت تنزيلين ، والشيخ النائيني(قده) قال لا وإنما هو اعتبار، فلا يلزم شيء بالبيان المتقدم .
إذن كلّ هذا النقاش بين العلمين مبنيّ على أن دليل حجية الأمارة هو دليل لفظي ، والحال أنَّ الدليل المهم هو السيرة العقلائية ، أما الأدلة الشرعية يمكن أن يقال هي مرشدة إلى السّيرة وليست مبيّنة إلى مطلب جديد ، ومادام الدليل على حجية الخبر هو السيرة يتضح عدم إمكان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، بل تقوم مقام القطع الطريقي المحض فقط ، وذلك لوجهين: ـ
الأول:- إنَّ السيرة دليل لبّي والقدر المتيقن منه أنَّ العقلاء يتعاملون معها معاملة المنجّزية والمعذّرية التي هي وظيفة القطع الطريقي المحض، وأما ما زاد على ذلك فلا يحرز جريان سيرتهم عليه.
الثاني:- إنَّ المتداول في الحياة العقلائية هو القطع الطريقي المحض أما الموضوعي بكلا قسميه الطريقي والصفتي فليس متداولاً فيها ، فلا يوجد عندهم حكم منصبّ على عنوان القطع بحيث يكون القطع مأخوذاً في الموضوع ويصير القطع طريقياً فإنه عادةً لا يكون هذا ، وإذا وجد فهو ليس حالة شائعة ، إنما الشائع هو الطريقي المحض ، فعلى هذا الأساس لا نقول إنَّ الامارة تقوم مقام القطع الموضوعي ، بل الموجود عندهم هو القطع الطريقي المحض ، فالأمارة إذن تقوم مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير لا أكثر ، فالقطع عندهم كالطريق لا أنه مأخوذ في موضوع الحكم.
إذن نحن نوافق مع الشيخ الخرساني(قده) في النتيجة ولكنه أثبت مطلوبه من طريقٍ ونحن اثبتناه من طريقٍ آخر.
قيام الأصول مقام القطع
هل تقوم الأصول العملية مقام القطع؟
الجواب:- ينبغي التفصيل بين القطع الطريقي المحض والقطع الموضوعي ، فالقطع الموضوعي إذا لم تقم الأمارة اليتي هي أقوى درجة مقامه كما انتهينا إليه فبالأولى أن لا يقوم الأصل العملي مقامه ، وأما بالنسبة إلى القطع الطريقي المحض فقد ذكرنا أنَّ الأمارة تقوم مقامه في التنجيز والتعذير.
وهل يقوم الأصل مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير ؟ نعم لا بأس به ، فإن أصل الاحتياط يثبت التنجيز وهذا معناه أنه قائم مقام القطع المحض الذي وظيفته التنجيز ، وأصل البراءة يفيد التعذير ، وهذا معناه أنَّ الأصل العملي اتفق مع القطع ، فإذن يقوم مقامه.
والخلاصة:- كما أنَّ القطع ينجّز التكليف تارةً ويعذّر أخرى كذلك الأصل قد ينجّز تارةً كأصل الاشتغال وقد يعذّر أخرى كأصل البراءة ، فإذن قام الأصل مقام القطع في التنجيز والتعذير.
بيد أننا نشير إلى نكتة:- وهي أن التعبير بكون الأصول تقوم مقام القطع في التنجيز والتعذير فيه مسامحة ، لأن أصل البراءة ليس شيئاً وراء البراءة ، وأصل الاشتغال ليس شيئاً وراء أصل الاشتغال ، لأنَّ أصل البراءة معناه ( متى ما شككت في أصل التكليف فأنت حكمك البراءة ) ، فانت معذور لو كان هناك تكليف ، لا أنه شيء له أثر وأثره هو المعذّر كما في الأمارة ، فإنَّ الأمارة شيءٌ له أثر ، فالأمارة خبر ثقةٍ وهذا الخبر له المعذّرية والمنجزّية ، أما أصل البراءة فهو نفس التعذير ، وهكذا أصل الاشتغال ليس هو شيئاً له المنجّزية ، بل هو عين المنجّزية لا غير ، فإنَّ مضمون أصل الاشتغال هو ( إذا علمت بالتكليف وشككت بالمكلف به فيلزمك الاحتياط ) يعني الاشتغال ، فالاشتغال والمنجزيّة هي عين أصل الاشتغال لا أنه نتيجة له ، فلذلك التعبير بأن أصل الاشتغال وأصل البراءة يقوم مقام القطع في التنجيز والتعذير مسامحة.
نعم في الاستصحاب ربما يقال هو شيءٌ آخر ، لأن الاستصحاب معناه لزوم الأخذ بالحالة السابقة لا أنَّ مضمونه هو التنجيز والتعذير بل مضمونه استصحاب الحالة السابقة ، وماذا يترتب على الحالة السابقة ؟ يترتب الاشتغال إذا كانت الحالة السابقة هي الاشتغال وقد يترتب البراءة إذا كانت الحالة السابقة عدم الاشتغال ، فربما يقال لا توجد مسامحة في التعبير في الاستصحاب.
أخذ العلم في موضوع الحكم
قسم الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية العلم إلى عدّة أقسام وقال:- فمرّة قد يؤخذ في موضوع شخص ذلك الحكم مثل أن يقال ( إذا علمت بحرمة الخمر فتلك الحرمة سوف تثبت )، فالعلم متعلّق بالحرمة والحرمة الثابتة هي تلك الحرمة التي تعلّق بها العلم ، فالعلم بالحكم مأخوذ في شخص ذلك الحكم المعلوم لا في نوعه ولا في جنسه ولا في مخالفه ، ومرَّة يؤخذ العلم في مثله كما لو قيل ( إذا علمت بحرمة الخمر تثبت حرمة مماثلة ) ، ومرّة أخرى يثبت في ضدّه.
وهذه التقسيمات ذكرها في الكفاية وهي تقسيمات فرضية لغرض استيعاب الأقسام وهي ليست محل الابتلاء ، والمهم منها تقسيم واحد وهو الذي سوف نتكلم عنه ، وهو أن يؤخذ العلم بالحكم في شخص ذلك الحكم ، يعني متى ما علمت بوجوب صلاة الجمعة مثلاً فيثبت وجوب صلاة الجمعة ، فهل يكون هذا ممكناً أو لا - وهو أن يؤخذ العلم بشخص ذلك الحكم - ؟ ، كما في الجهر والاخفات ( متى ما علمت بوجوب الجهر والاخفات فآنذاك يثبت وجوب الجهر والاخفات ) ، فعلمك يولّد وجوب الجهر أما قبل العلم فلا يوجد ، فهل هذا ممكن أو ليس بممكن ؟
ولعل أوّل من التفت إلى الاستحالة العلامة الحلّي في أبحاثه الكلامية:- حيث ذكر أنه لا يمكن أن يؤخذ العلم في موضوع نفس الحكم[1] للدور ، لأنَّ الحكم يتولّد بعد أن تعلم ، والعلم لابد أن يتعلق بالحكم ، فتعلق ثبوت الحكم على ثبوت الحكم نفسه ، فثبوت الحكم يتوقف على العلم به ، والعلم بالحكم موقوف على نفس الحكم ، فصار الحكم موقوفاً على نفس الحكم وهذا مستحيل.
بيد أنه يمكن ان يقال:- إنَّ هذا الدور باطل ، وذلك بأن قال: صحيح إنَّ ثبوت الحكم موقوف على العلم بالحكم ، أما أنَّ العلم بالحكم فرع ثبوت الحكم فلا فإنَّ العلم بالشيء ليس فرعاً لثبوت ذلك الشي وإلا كان كل علم مصيباً ، فأحياناً أتخيل أنَّ أسداً ورائي فأهرب ، فعندي علم بسبب سماعي للزئير الذي ليس مصدره أسد حقيقي، فهذا علمٌ لكن المعلوم – الذي هو الأسد - غير موجود ، فالعلم بالشيء لا يتوقّف على ثبوت ذلك الشيء وإلا كان كلّ علمٍ مصيباً ، وحل المشكلة: هو أنَّ العلم يتعلّق بالمعلوم الذي هو في الذهن وليس المعلوم الخارجي وإلا يلزم دخول الخارج في الذهن أو العكس ، فإن العلم موطنه الذهن فكيف يتعلّق بالشيء الخارجي فإنَّ هذا لا يمكن.
إذن متعلّق العلم ليس هو الوجود الخارجي للأسد وإنما الصورة الذهنية للأسد ، والصورة الذهنية دائماً موجودة في الذهن ولكن إذا كان الأسد موجوداً في الخارج فنقول العلم مطابق للواقع ، وإذا لم يكن موجوداً فنقول العلم ليس مطابقاً للواقع ، فالدور الذي ذكره باطل.