الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/04/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- قيام الأمارة مقام القطع - مبحث القطع.

أجاب الشيخ النائيني(قده)[1] :- بأن ما ذكرته يتم بناءً على مسلك التنزيل - يعني معنى حجية الامارة أنها منزلة منزلة القطع - أما إذا فسّرنا الحجية بالاعتبار - يعني اعتبار الأمارة علماً - لا تنزيلها منزلة العلم والقطع فلا يأتي هذا الاشكال.

وهنا قضيتان لابد من ايضاحهما:-

القضية الأولى:- ما الفرق بين فكرة التنزيل وفكرة الاعتبار ؟

القضية الثانية:- لماذا ما أفاده الشيخ الخراساني يأتي على مسلك التنزيل فقط ولا يأتي على مسلك الاعتبار ؟

أما بالنسبة للقضية الأولى:- فإنه في باب التنزيل يكون النظر الأوّلي للمنزِل - المشرِّع- هو الذي ينزل الأمارة منزلة القطع ، فالنظر الأوّلي في التنزيل يكون بلحاظ الآثار ، فالتنزيل ناظر في الحقيقة إلى الآثار ، فمثلاً إذا فرض أن الحديث كان يقول: ( الرضاع لحمة كلحمة النسب )[2] ، فمن قوله ( كلمحة النسب ) نفهم أن الشرع ينزل الرضاع منزلة النسب في الآثار ، يعني كل ما يترتب على النسب يترتب على الرضاع ، فالأخت والبنت والأم حرام في باب النسب وفي الرضاع الحكم كذلك أيضاً ، فالمهم في باب التنزيل النظر الابتدائي يكون إلى الآثار، فعندما تقول نزلتُ هذا منزلة هذا يعني في الآثار.

وهنا تترتب على هذا ثمرة مهمة:- وهي أنه مادام النظر ابتداءً منصبّاً على الآثار فيمكن التمسّك بالإطلاق ، يعني نقول: حيث لم يقيد هذا التنزيل بأثر دون أثر فحينئذٍ مقتضى الاطلاق الشمول لجميع الآثار وإلا احتاج إلى قرينة لإخراج الأثر الذي يريده ، وعدم القرينة وعدم المقيد يدل على أنَّ هذا التنزيل ثابت بنحو الاطلاق ، ففي باب التنزيل يكون عندنا أمران ، الأول إنَّ التنزيل يكون بلحاظ الآثار ، والثاني إنه يمكن التمسّك بالإطلاق ، ومن هذا القبيل للتنزيل - وإن كان غير موجود في رواياتنا - ( الطواف في البيت صلاة ) إذا قلنا بوجود تنزيل فالطواف يعني كالصلاة فكل أحكام الصلاة حينئذٍ تترتب للطواف إلا ما خرج بالدليل.

أما في باب الاعتبار فلا نظر للآثار ابتداءً ، وإنما المنظور فيه جعل هذا فرداً ادّعائياً كالحقيقة السكاكية، حيث يقول ( أنا اجعلُ اعتبرُ الرجل الشجاع فرداً من أفراد الأسد ) ، فهنا نعتبر الأمارة فرداً من أفراد القطع ، فالمولى يعتبر الأمارة علماً وقطعاً ، فالنظر في الاعتبار على كونه فرداً ، أما الآثار هنا فغير منظور إليها وليست ملحوظة ابتداءً ، وإنما المنظور له ابتداءً جعل الفردية أي كونه فرداً من هذه الحقيقة ، نعم حيث إنَّ اعتباره هذا فرداً من القطع من دون ملاحظة الآثار لغو ، فصيانةً لكلام الحكيم عن اللغوية لابد وأن نفترض أنَّ هذا الاعتبار بالتالي يرجع إلى الآثار، ولكن الاطلاق لا يجوز التمسّك به هنا ، لأنَّ المولى ليس مصبّ نظره الآثار حتى نتمسّك بالإطلاق ، هذا نقطة مهمة ، وانما محل نظره اعتبار الأمارة فرداً من القطع ، والآثار ليس محل النظر، نعم من دون ادخال فكرة الآثار يكون لغواً ، فصيانة كلام الحكيم من اللغوية التي تسّمى بدلالة الاقتضاء لابد أن نقول الآثار تترتب ولكن لا يشترط أن تكون جميع الآثار بل يكفي أثر واحد فيقتصر على القدر المتيقن ، هذا فرق واضح بين التنزيل وبين مسلك الاعتبار.

وأما بالنسبة إلى القضية الثانية:- فالجواب على مسلك التنزيل يكون الأثر هو الملحوظ كما قلنا ، وإذا كان الأثر هو الملحوظ ابتداءً فنقول إنَّ التنزيل بلحاظ الأثر المترتب على الواقع يكون تنزيلاً آليا، لأنَّ الملحوظ هو الواقع ، بينما الأثر الآخر إذا كان مترتباً على نفس القطع فيكون بنحو الموضوعية فالتنزيل يكون استقلالياً.

إذن الاستقلالية والآلية ينشآن من الأثر ، فإذا كان الأثر مترتباً على الواقع فالتنزيل يكون آليا ، وإذا كان مترتباً لا على الواقع بل على الصفة فيكون تنزيلاً استقلالياً ، وحيث أنَّ المنظور في باب التنزيل الأثر ابتداءً فيلزم اجتماع تنزيلين ، وأما على مسلك الاعتبار فلا يلحظ الأثر حتى نقول إنه يلزم أن يكون لدينا اعتباران آلياً واستقلالياً فالأثر ليس ملحوظا وإنما الملحوظ جعل فرد ادّعائي للمعنى الحقيقي.

نعم قال الشيخ النائيني(قده):- إنه بعد أن يحصل هذا الفرد الاعتباري وتصير الأمارة فرداً من العلم ، فسوف يلحقها آثار العلم قهراً وإلا فالمعتبر ابتداءً ليس ناظراً للآثار، والآثار ليست ملحوظة فلا يلزم اجتماع الآلي والاستقلالي ، ثم مثل بمثال وقال: لو فرضنا في باب الخمر كانت الحرمة مترتبة على ذات الخمر وليس على الخمر المعلوم ، أما نجاسة الخمر فكانت مترتبة على الخمر بقيد أن يكون معلوم الخمرية ، يعني أنَّ القطع كان قطعاً موضوعياً أخذ بالموضوع ، أما هناك فالحرمة مترتبة على واقع الخمر وليس على الخمر المعلوم ، ففي مثل هذه الحالة دليل حجية الأمارة حيث أنه اعتبر الأمارة فرداً من أفراد العلم فحينئذٍ يترتب عليها القدر المتيقن وهو الأثر الواقعي ، يعني المترتب على واقع وذات الخمر ، يعني أثر القطع الطريقي ، فتثبت بذلك الحرمة ، فيثبت التنجيز والتعذير، هذا هو القدر المتيقن فتثبت الحرمة ونصير عالمين بالحرمة ، فإذا صرنا عالمين بالحرمة فقط ثبتت الحرمة يعني أنها تتنجز.

ثم قال:- وأما النجاسة كيف نثبتها والمفرض دليل الاعتبار لا اطلاق فيه بلحاظ الآثار؟ قال:- إنك إذا صرت بلحاظ الأوّل وهو الحرمة إذا صرت عالماً فبالتالي ترتبت النجاسة، لأنه يصدق أنك عالم بالخمرية بسبب الاعتبار الأوّل ، فإذا صرت عالماً بالخمرية فسوف ترتبت آنذاك النجاسة ، يعني أنَّ هذا الأثر الثاني ترتب من خلال الأثر الأوّل ، فانه - الأثر الأول - القدر المتيقن من دليل الاعتبار هو جعل واعتبار الأمارة علماً بلحاظ القطع الطريقي فتترتب الحرمة ، وعندما صرت عالماً بالخمرية فسوف يترتب الأثر الثاني وهو النجاسة ، فإذن لم يلزم بالتالي اجتماع لحاظين بل يوجد لحاظ واحد فقط وهو جعل الأمارة علماً وقطعاً.

ويرد عليه:-

أولاً:- إنَّ دليل الاعتبار حينما يعتبر الأمارة علماً فهو يعتبرها من دون ملاحظة الأثر وإنما الأثر تترتب من باب صيانة كلام الحكيم عن اللغوية ، وحينئذٍ يترتب الأثر المتيقن وهو أثر العلم الطريقي ، وهو أني أصير عالماً من حيث الحرمة التي هي ثابتة للواقع الخارجي، أما بقية الآثار كيف تثبتها ؟! ، والاطلاق لا يجوز التمسّك إذ كلام المتكلم ليس ناظرا للآثار ، فبقية الآثار ليس منظوراً إليها إلا أن تقول ، كما في الفعل فهو قال إذا صرت عالماً بلحاظ الحرمة الثابتة للواقع الخارجي فسوف يتحقق كلا جزئي الأثر الثاني يعني أنَّ النجاسة تترتب حينئذٍ لانها تحتاج إلى خمرٍ زائداً العلم وقد تحققا بسبب الاعتبار الأوّل ، فاعتبرت عالماً بالخمرية من هذه الزاوية فيترتب الأثر من زاوية النجاسة.

ولكن يرده:- إنَّ الملازمة غير ثابتة ، فالمولى إذا اعتبره عالماً من هذه الزاوية لا يلزم أن يعتبره عالماً من تلك الزاوية الثانية ، اعتبره عالماً من حيث الحرمة ، وأما من حيث النجاسة فهذه أثر ثانٍ لم اعتبرك عالما ، فلا يلزم من ثبوت الاعتبار الأول ثبوت الاعتبار الثاني وترتب الأثر الثاني وإلا يلزم حجية الأثر المثبت ، وإلا لماذا قالوا إنَّ الأصل المثبت ليس بمثبت ، فقالوا إنَّ استصحاب الحياة لا يثبت انبات اللحية ، وعلى رأي الشيخ النائيني(قده) يلزم أن يثبت ، لأنَّ بالاستصحاب الأوّل اعتبرت عالما بالحياة وإذا كنت عالماً بالحياة فلابد أنَّ لحيته قد نبتت لأنَّ عمره صار ثلاثين سنة مثلاً.

إذن ثبوت اعتبار ثاني من الاعتبار الأوّل يلزم منه حجية الاصل المثبت، ومنك تعلمنا أنَّ الأصل المثبت ليس بحجة ، فهنا نطبّق نفس الكلام فالمولى قد اعتبرني عالماً بثبوت ذات الخمر من زاوية الحرمة فلا يلزم من ذلك اعتباري عالماً بالخمرية من زاوية النجاسة ، إذ لا ملازمة بين الاعتبارين.

ثانياً:- إنَّ كلامك إن تم فإنما هو يتم فيما إذا كان المدرك دليلاً لفظياً ، وأما إذا كان هو السيرة فيثبت مقدارها المتيقن ، والقدر المتيقن منها هو بلحاظ الأثر الأول وهو الحرمة ، أما بلحاظ الأثر الثاني وهو النجاسة فلا ، فكيف نتعدى؟


[1] اجود التقريرات، الخوئي، ج٣ ص٢٦. فوائد الاصول، النائيني، ج٣ ص٢١.
[2] وهذا الحديث لا يوجد بهذا اللفظ ولكن نحن نفترضه، والا فالموجود في الروايات هو ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، فهذا ليس موجودا ولكن نحن نفترضه، و ( لحمة ) يعني قرابتي.