الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/04/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- قيام الأمارة مقام القطع - مبحث القطع.

القطع الموضوعي الطريقي يعني أخذ القطع في موضوع الحكم بما هو طريق ، أما أخذه بما هو صفة فبعيد ، فالكلام يقع في القطع الموضوعي بنحو الطريقية ، فهل تقوم الأمارة بدليل حجيتها لا بدليل آخر مقامه أو لا ؟

يوجد اختلاف بين الأعلام ، قال الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل[1] نعم الأمارة بدليل حجيتها تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي ، ووافقه على ذلك الشيخ النائيني(قده)[2] ، وخالف في ذلك الشيخ الخراساني(قده) وقال إنَّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي[3] .

والمهم أنَّ صاحب الكفاية(قده) يستدل على عدم الجواز ، فهو المناسب ، باعتبار أنَّ القطع لوحظ بما هو طريق فمن المناسب أن تقوم الأمارة مقامه لأنها طريق أيضاً ، فالذي يدّعي عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي مثل صاحب الكفاية(قده) هو الذي يحتاج إلى دليل.

وما هو دليله ؟ فإنَّ عبارته مطوّلة في الكفاية وألفاظها صعبة ، ونحن نترك التطويل الألفاظ الصعبة ونبين لبّ المطلب فنقول:- إنه قال: إنَّ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي هو عبارة أخرى عن عملية تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوع الطريقي ، وعملية التنزيل تحتاج إلى ملاحظة المنّزل وملاحظة المنّزل عليه ، والمنّزل في موردنا هو الأمارة فنحن نريد أن ننزّلها ، والمنّزل عليه هو القطع الموضوعي الطريقي ، فاذا عرفنا هذا فنقول إنَّ التنزيل بلحاظ القطع الموضوعي جنبة الموضوعية تحتاج إلى ملاحظة القطع بما هو قطع والأمارة بما هي أمارة ، يعني نلاحظهما لا بنحو الآلية إلى المؤدّى والمتعلّق فالقطع الموضوعي فيه جنبة موضوعي وجنبة طريقي ، فمن ناحية الموضوعية نلحظ ذات الأمارة وليس المؤدّى وذات القطع فتنزل نفس الأمارة منزلة القطع ، بينما مقتضى الطريقية - يعني القيد الثاني - هو ملاحظة متعلّق القطع ومتعلّق الأمارة ، يعني أنَّ اللحاظ يكون لحاظاً آلياً ، بينما الأول يكون استقلالياً - أي نلحظ ذات الأمارة وذات القطع - ومن المعلوم أنَّ اجتماع اللحاظين - الآلي والاستقلالي - في آنٍ واحدٍ لا يمكن لأنه جمع بين المتنافيين ، فيحصل اجمال في دليل حجية الأمارة فلا ندري هل يريد أن ينزّلها منزلة القطع باللحاظ الاستقلالي أو بلحاظ الآلي ، لكن هناك قدر متيقن وهو أنَّ التنزيل بلحاظ الآلية ، فالكلام في الزيادة ، فأكثر ما نستفيده هو التنزيل باللحاظ الآلي ، فيُنزّل مودّى الأمارة منزلة مودّى القطع ، لا تنزيل الأمارة منزلة القطع.

والجواب: -

أوّلاً:- إنَّ ما ذكره يتم فيما إذا كان دليل حجية الأمارة دليلاً لفظياً ، ولا يتم فيما إذا كان دليل حجيتها هو السيرة العقلائية ، فإنَّ السيرة لا يوجد فيها تنزيل بل معناها أنَّ العقلاء يعملون بالخبر بإمضاء الشارع ونعلم بأنه أمضاها ، وهذا غريب من صاحب الكفاية(قده) ، فإنَّ واقع دليل حجية الأمارة ليس لفظياً حتى نقول هو يقوم بعملية التنزيل.

ثانياً:- حتى لو فرضنا أنَّ دليل حجية الأمارة كان لفظياً لكن الدليل اللفظي ليس فيه تنزيل ، فمثلاً يقول ﴿ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ﴾ ، فبالمفهوم نستفيد أنه إذا لم يجئ الفاسق بل جاء العادل فلا تتبينوا ، فعملية تنزيل غير موجودة ، أو مثل ( العمري وابنه ثقتان فما أديا فعني يوديان ) أيضا ليس فيه عملية تنزيل ، فحتى الدليل اللفظي ليس فيه عملية تنزيل.

ثالثاً:- يمكن أن نفترض أن المتكلم ينزّل بهذا الشكل فيقول ( نزّلت الأمارة منزلة القطع في جميع الآثار ) ، هذا الشي ممكنٌ عقلائياً ولا شيء فيه ، فأي دور يقوم به القطع تقوم به الأمارة ، فهذه عملية ممكنة ، فمن أين لك يا صاحب الكفاية عدم الامكان ؟!! وإنما هو ممكنٌ بالوجدان.

أما لماذا يمكن ؟ سنبّين نقطة الخفاء التي بسببها حصل الخلط عند صاحب الكفاية(قده) حيث قال لا يمكن ذلك نحن نقول هو ممكن بالوجدان ، إنه يمكن للعاقل أن يقول إنَّ الأمارة كالقطع في جميع الآثار بالوجدان ، وهناك نقطة حصل فيها الخفاء ولو ازيل عنها الخفاء لعله تتجلى الأمور ويرتفع ما قاله صاحب الكفاية(قده) ، ونقطة الخفاء هي أنَّ الأمارة والقطع إذا أخذهما المولى في عالم الجعل والتشريع فهو لم يأخذهما بنحو الآلية ولا بنحو الاستقلالية ، وافترض أنك أنت المشرّع وقلت ( أيها الناس الأمارة كالقطع ) - هذا في عالم الجعل - فهنا أنت لا تلحظ الأمارة بنحو الآلية أو بنحو الاستقلالية - لا الأمارة ولا القطع - وإنما في عالم الجعل أنت تلحظ الأمارة كمرآة إلى الأفراد الخارجية للأمارة ، ومفهوم القطع يلحظ كمرآة إلى أفراد القطع في الخارج ، يعني الأفراد التي في قلب الشخص الأوّل والثاني والثالث .... وهكذا ، أما أن يلاحظ بنحو الآلية أو الاستقلالية فلا ، وإنما المولى يلحظ الأمارة كمفهومٍ حاكٍ عن أفراد الأمارة في الخارج ، ومفهوم القطع يأخذه كمرآة لمفهوم القطع في قلوب الناس ، هذا هو واقع الحال ، فكل أمارة من الأمارات مثل خبر الثقة والظهور وغيرهما نلحظه كمرآة للأفراد الخارجية ، كما هو الحال فيما لو قال المولى ( العصير العنبي كالخمر) فإنه ماذا تفهم منه ؟ إننا نفهم أنَّ أفراد العصير العنبي الخارجية هي كالخمر الخارجي ، فيلحظ العصير كمفهوم يحكي عن الأفراد الخارجية ، فالآلية والاستقلالية غير موجودة في عالم الجعل ، فإذن أين تكون موجودة ؟ إنها موجودة في نفس الشخص الذي فيه قطع ، فهذا القطع مرة تلحظه بما هو قطع بما هو صفة نفسانية وتقول مثلاً ( القطع احسن من التشكيك ) ، ومرة تلحظ القطع بما هو مرآة إلى المقطوع ولكن هذا للقطع الذي في قلبك ، وهكذا الأمارة ، وكأنّه حصل خلط بين ما يلحظه الجاعل وبين ما هو في حقّ الشخص القاطع كزيد ، والمرآتية والاستقلالية هي للقطع الثابت في قلب القاطع ، وأما القطع المأخوذ في عالم الجعل فليس فيه آلية واستقلالية وإنما يؤخذ كمرآة.

إذن لو أراد المولى أن يقول ( الأمارة كالقطع ) فلا يوجد الآلية واستقلالية في عالم الجعل فإنها من شؤون عالم القطع لقلب القاطع وليس في عالم الجعل ، فارتفعت الشبهة ، هذا هو منشأ الاشكال الذي وقع فيه صاحب الكفاية(قده).

إذن هذا حُلّ الاشتباه في هذه القضيّة.


[1] فرائد الاصول، النائيني، ج١، ص٣٣.
[2] اجود التقريرات، الخوئي، ج٣، ص١٩.
[3] كفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ص٢٦٤.