الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- قيام الأمارة مقام القطع - مبحث القطع.

إن قلتَ دفاعاً عن الشيخ النائيني(قده):- إنَّ نصوص حجية الأمارة إذا لم تجعل العلمية فلازمه أنها تجعل استحقاق العقوبة على المخالفة وهذا ليس من الأمور القابلة للجعل الشرعي ، إذ لا معنى للشرع أن يقول ( إني اجعل استحقاق المؤاخذة على مخالفة الأمارة ) ، فإن استحقاق العقاب أثر عقلي وحكم عقلي والأحكام العقلية لا تقبل الجعل ، فالمولى لا يمكن أن يجعل استحقاق العقوبة لأنه أثر عقلي، نعم يتمكن أن يجعل الأمارة علماً ، فاذا جعلها علماً فسوف يترتب استحقاق العقوبة بشكل قهري ، لأنَّ الأمارة صارت بمثابة العلم ، وحيث إنَّ مخالفة العلم توجب استحقاق العقوبة عقلاً فما هو قائم مقام العلم يوجب ذلك أيضاً بلا حاجة إلى جعلٍ لاستحقاق العقوبة من قبل الشارع.

قلتُ:- بإمكان المولى أن يجعل شيئاً أخر غير العلمية ، وهو أن يجعل وجوب المتابعة ، فهو يلزمك بالمتابعة والسير على طبق خبر الثقة من دون أن يجعله علماً ، وهذا حكم تكليفي قابل للجعل ، فإذا جعله المولى والمكلف خالف هذا الحكم فسوف يستحق العقاب كاستحقاقه العقاب على مخالف كلّ حكم تكليفي ، كاستحقاق العقاب على مخالفته وجوب الصلاة ، أليس هو قد خالف حكماً تكليفياً ؟ فإذن يستحق العقوبة ، وفي باب الأمارة أيضا نقول كذلك فإنَّ المولى لا يجعلها علما ، بل يجعل وجوب المتابعة تكليفاً ، فإذا لم تأخذ بالأمارة فحينئذٍ يترتب على ذلك استحقاق العقوبة من دون حاجة إلى جعلٍ علمي وإنما إما بجعل وجوب المتابعة أو بجعل شيءٍ أخر من هذا القبيل ، فإذن يمكن الوصول الى اثبات هذا الأثر - وهو استحقاق العقوبة - من دون توسيط فكرة العلمية ، هذا كلّه على التقدير الأوّل - يعني اذا كان يقصد الشيخ النائيني انه يقول بجعل الطريقية لأدلة جعل الامارة هي تدل على جعل العلمية -.

وأما إذا كان يقصد التقدير الثاني - يعني هي لا تدل ولكنها حلّ لإشكال لوزم تخصيص الأحكام العقلية أي قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) – فنقول:- إنَّ الأمارة قد جعلها الشارع علماً لا من باب أنَّ أدلتها الظاهرة في ذلك وإنما من باب التخلّص من هذا الاشكال.

وإذا كان يقصد هذا فيرده:-

أوّلاً:- إنَّ جعل العلمية لا يحل الاشكال ، فإنَّ ذلك احتيال على العقل وغشّ على العقل والعقل لا يقبل أن يُغش ، فإنه قال ( يقبح العقاب بلا بيان ) والمقصود من البيان العلم ، فالمدار ليس على الألفاظ بل على واقع المطلب ، فالمدار على العلم أي العلم الوجداني مائة بالمائة، فاذا لم يكن العلم الوجداني موجوداً فيقبح العقاب وان اعتبرت الأمارة علماً مائة مرة بل ألف مرة ، فإنَّ ذلك لا يصيّرها علماً وجدانياً.

فإذن مطلب يرفضه العقل ، فالعقل يريد العلم الوجداني ومن دونه يقبح العقاب ، أما أن يأتي شخص ويعتبر ظناً من الظنون علماً فهذا لا يكتفي به العقل.

وإن شئت قل بعبارة أخرى:- إنَّ هذه الحكومة التي تنشأ من الاعتبار هي في واقعها تخصيص لكن صيغت بلسانٍ يتناسب مع الحكومة حيث قيل ( اعتبرتُ الأمارة علماً ) فباللسان قلنا هذه حكومة وإلا هي في الواقع تخصيص ، فكلاهما تخصيص ، والتخصيص الواقعي والحكومة هما معاً تخصيصٌ من حيث الروح لكن يختلفان من حيث اللسان ، والعقل لا يُخدع بالصياغات والألفاظ[1] .

ثانياً:- إنَّ الحكومة لا مجال لها من الأساس ، فإنَّها تصدر من الشخص الحاكم صاحب الحق ، كما في باب الأحكام الشرعية فإنَّ الشرع اعتبر الصلاة واجبة ، واعتبر فيها الوضوء ، ثم يأتي نفس الشارع ويعتبر الطواف بمثابة الصلاة ويقول مثلاً ( الطواف في البيت صلاة ) ، فنفس الشارع يوسّع من دائرة موضوع حكمه ، وهذا معقول ، أما أن يكون الحكم صادر من طرفٍ والذي يوسّع هو طرفٌ آخر فهذا لا يمكن وليس بعقلائي ، فإنَّ كل عاقل له الحق أن يتصرّف في موضوع حكمه بالتوسعة والتضييق لا أن يتصرّف في موضوع حكم غيره ، وهذا من أوّليات الأمور ، وفي المقام إنه بناءً على الحكومة النائينية يكون الحكم الأوّل من العقل - الذي هو ( يقبح العقاب بلا بيان- لا من الشرع ، إنه حكم من العقل لكن الموسِّع هو الشرع وهذا مضحكٌ للثكلى إذ كيف يوسّع الشرع موضوع حكم غيره ؟!! ، فما ذكره الشيخ النائيني(قده) غريب.

إذن ماذا نصنع إذا لم نصر الى مسلك الحكومة وسُدّت علينا الأبواب وكيف نساعده ؟

نقول:- إنَّ كل الذي بيّناه ينبغي أن يكون منبهاً وجدانياً على بطلان هذه القاعدة من الأساس ، لا أنك تأتي وتلتزم بها ، فهذا منبّه على بطلانها فإنَّ الحكومة لا معنى لها كما أشرنا في الردّين المذكورين.


[1] يعني نقول للعقل اقبل بذلك فنحن اعتبرناه فهذا تخصيص وهو يقول أنا لا أقبله وإن صغته بلسان الحكومة.