الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/04/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- :- قيام الأمارة مقام القطع - مبحث القطع.
اتفقت الكلمة في موردين واختلفت في مورد واحد:-
اتفقت الكلمة على أنَّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي المحض
، كما أنَّ الكلمة اتفقت على أنَّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي الصفتي.
إنما الكلام والخلاف وقع في قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، هنا وقع الخلاف بين الأعلام ، فالشيخ الأعظم والشيخ النائيني ذهبا إلى أنها تقوم مقامه بنفس دليل حجيتها بغض النظر عن أي دليل آخر ، أما الشيخ الخرساني فقد أنكر ذلك.
وبعد اتضاح هذا نقول:- أما بالنسبة إلى مورد الاختلاف وهو القسم الثالث فيأتي الحديث عنه وما هو الصحيح فيه ، وأما بالنسبة الى القسم الثاني - وهو قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي- فقد قلنا إنَّ الكلمة اتفقت على أنها لا تقوم مقامه وهذا شيء جيد ، والنكتة في ذلك هي أنَّ القطع الموضوعي الصفتي هو صفة من الصفات النفسية ، ودليل حجية الأمارة يدل على أنها منجّزة ومعذّرة ولا يدل على أنها صفة نفسية ، فكما أنَّ دليل الأمارة لا يدل على قيامها مقام الشجاعة والذكاء كذلك لا يدل على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي ، وهذا شيء صحيح ، ولكنهم قالوا إلا إذا دلّ الدليل الخاص على قيام الأمارة مقام القطع الصفتي.
وعندنا وقفة قصيرة عند هذا الاستدراك فنقول:- إنه إذا قام الدليل الخاص فهذا ينكشف على أنَّ القطع الموضوعي ليس صفتياً ، وهذا معناه أنه طريقي ، وإلا كيف قامت الأمارة مقامه ؟!! ، فهذا الاستثناء هو استثناءٌ منفصلٌ وليس متصلاً ، وهو خلاف الفرض فيكون خروجه خروجاً موضوعياً.
أما بالنسبة إلى الأوّل فقد اتفقت الكلمة على أنَّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي المحض ، وقد اتضحت النكتة فيما تقدم وهي أنَّ وظيفة القطع الموضوعي المحض هي التنجيز والتعذير وقالوا أنَّ حجية الأمارة هي التنجيز والتعذير وإذا كانت كذلك منجّزة ومعذّرة فتصير كالقطع الطريقي في التعذير والتنجيز ، إذ لو لم تكن منجّزة ومعذّرة لما كانت حجة ، فحينما افترضت أنها حجة صارت كالقطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير ، وهذا واضح لحدّ الآن وليس فيه إشكال.
وإنما الاشكال في إنَّ أصحاب قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) يقعون في اشكال بلحاظ هذا المطلب ، فإنهم يومنون بأنه يقبح العقاب بلا بيان أي بلا علم ، يعني أنَّ المنجّز فقط وفقط هو العلم ، وهذا حكم عقلي وليس شرعياً ، ومادام هو حكماً عقلياً ونحن نعرف أنَّ الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص فكيف تصير الأمارة منجّزة ومعذّرة يعني توجب العقوبة إذا خالفها المكلف ؟! ، فمادام هي حجة والحال أنها ليست علماً ، إنَّ هذا خلاف قاعدة يقبح العقاب بلا علم ، فصار استثناءً وصار تخصيصاً ، فالنتيجة تكون ( يقبح العقاب بلا علم إلا إذا قامت الأمارة فإنَّ المكلف يستحق العقوبة على المخالفة رغم أنها ليست علماً ) ، وهذا تخصيص لقاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص ؟! ، هذا اشكال واجهه أصحاب قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) ، كيف التفصّي عنه والتخلص منه ؟
فكروا في حلّ هذه المشكلة وهي مشكلة مهمة ، فإذا أردنا أن نرفع اليد عن قاعدة ( قبح العقاب بلا البيان ) فيلزم أنَّ تكون عندنا أصول جديدة لأنَّ الأصول مبتنية عليها ، وقد فكّروا فاخترعوا مسلك جعل العلمية ، فمسلك جعل العلمية هذه جذوره وهذه مناشئه ، فالشيخ النائيني(قده) ابتكر مسلك جعل العلمية وقال: إنَّ معنى أنَّ الأمارة حجة ليس أنها منجّزة ومعذّرة فإني لا أقبل بذلك - خلافاً للشيخ الخرساني في الكفاية فإنه يظهر من بعض كلماته أنَّ حجية الأمارة هي بمعنى التنجيز والتعذير - وإنما معنى كونها حجة هي كونها علماً ، يعني أنا الشارع جعلتها علماً ، وبعد أن صارت علماً وبمثابة العلم فحينئذٍ يرتفع الاشكال ولا يلزم محذور تخصيص قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ).
نعم يلزم حكومة دليل حجية الأمارة على القاعدة ، فإذن يلزم الحكومة لا التخصيص ، ولماذا يلزم الحكومة ؟ لأنَّ القاعدة تقول يقبح العقاب بلا علم أي بلا علم وجداني ، ودليل حجية الأمارة يقول ( جعلت الأمارة علماً وجدانياً لكن على مستوى الاعتبار فانا اعتبرته علماً وجدانياً ) ، فإذا صار علماً اعتباراً فحينئذٍ صار حاكماً ، فدليل حجية الأمارة وسّع موضوع قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) ، فالعلم التكويني وسّعناه إلى علم تكويني وإلى علم اعتباري ، فمع العلم الاعتباري يتوسّع.
إذن دليل حجية الأمارة يعتبر الأمارة علماً وبالتالي يرتفع موضوع قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) ، لأنَّ البيان موجود غاية الأمر العلم الأوسع الشامل للاعتباري ، إنَّ منشأ التفكير في مسلك جعل العلمية للأمارة هو هذا ولولاه يلزم تخصيص قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) ، ولأجل أن لا يلزم هذا المحذور إذ هو تخصيص للأحكام العقلية أوجدوا فكرة جعل العلمية للأمارة ، فيصير دليل حجية الأمارة موجداً لفردٍ اعتباري من العلم ، وهذا هو معنى الحكومة.
وربما يظهر مسلك جعل العلمية من كلمات الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل ، ولكن الفكرة لم تشيد أركانها ، أما الشيخ النائيني(قده) فهو الذي شيد أركانها ووضّحها .
إذن تغلب الشيخ النائيني(قده) على هذه المشكلة بمسلك جعل العلمية للأمارة ، وهذا واحد من الآثار المهمة لمسلك جعل العلمية.
يرد على ما أفاده:-
أوّلاً:- ما المقصود من جعل العلمية للأمارة ؟ فهل يريد أن يقول إنَّ واقع الأمر هو كذلك ، يعني أنَّ دليل حجية الأمارة هو الذي يجعل العلمية للأمارة بقطع النظر عن هذه المشكلة ؟ فهل المقصود أنه هو واقعاً وبحدّ نفسه يفيد ويدل على جعل العلمية للأمارة ، أو أنَّ المقصود أنه بعد أن ضاق الخناق بنا ففراراً من محذور تخصيص حكم العقل - الذي هو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) - نصير الى جعل العلمية من باب حلّ المشكلة لا أنَّ دليل حجية الأمارة هو ابتداءً يدل على ذلك ؟
فإن كنت تقصد الأول - يعني أنَّ دليل الحجية حجية الأمارة هو يقتضي ذلك بحسب واقع الأمر وواقع الحال بقطع النظر عن هذه المشكلة - فجوابه واضح:- فإنَّ دليل حجية الأمارة المهم - التي هي خبر الثقة - المهم هو السيرة العقلائية أو النصوص ، أما السيرة العقلائية فأنتم العقلاء تبنون على الأخذ بخبر الثقة بلا اشكال إما من باب أنه علم وجعلناه علماً وأخذنا به من بعد ما جعلناه علماً ، فهذا بعيدٌ عن السيرة العقلائية وعن المرتكزات العقلائية ، فنحن نأخذ به أما أننا نجعله علماً وبعد ذلك نأخذ به فهذا غير موجود ، وإذا كان المقصود هو النصوص الروايات فالنصوص غاية ما تدل عليه هو لزوم الأخذ بكلام الثقة ، من قبيل:- ( العمري وابنه ثقتان ، فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان ، فاسمع لهما وأطعمها فإنهما الثقتان المأمونان )[1] ، فهذا وما شاكله يمثل سنّة قطعية مثلاً ، أو مثل:- ﴿ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ﴾[2] فهو حجة ابتداءً لا بعد أن فرض أنه علم ، فإذن الذي ذكره الشيخ النائيني(قده) لا يتم أذا أراد أن يدّعي أنَّ أدلة حجية الأمارة هي ابتداءً تدل على ذلك.
ومن الغريب أنَّ الشيخ النائيني(قده) ربما يظهر من بعض كلماته أنَّ جعل العلمية هو أنَّ السيرة العقلائية تبني من باب أنه علم ، فيبنون على علميته ثم يجعلونه منجّزاً ومعذّراً ، وهكذا النصوص ينزّلها على هذا المعنى.