الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/04/07
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث التجرّي - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
توضيح لما تقدم في المحاضرة السابقة:- ذكرنا في المحاضرة السابقة ذكرنا أنَّ ما استدل به على ثبوت العقوبة على قصد التجرّي من آيات ومن روايات ناقشناها بمناقشة أولى ثم ناقشناها بمناقشة ثانية عامة حيث قلنا هي بأجمعها خارجة عن قصد المعصية التخيلية يعني عن التجرّي وإنما هي ناظرة إلى المعصية الحقيقية وذكرنا الشواهد ، ولكن هناك آية كريمة ربما يقال إنَّ هذه الآية الكريمة تتلاءم مع قصد التجرّي أيضاً وهي قوله تعالى ﴿ لله ما في السموات وما في الأرض .... وإن تبدوا ما في أنفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله ... ﴾ فلنقل هذه الآية شاملة للتجرّي أيضاً وليس مختصّة بقصد المعصية الحقيقية فإنه لا توجد قرينة موجبة للخصيص بقصد المعصية الحقيقية وإنما هي تلتئم مع قصد المعصية الاعتقادية التخيلية التوهمية - إنَّ صح التعبير - فما هو الجواب ؟
والجواب:- إنَّ هذه الآية الكريمة حينما قالت ﴿ يحاسبكم به بالله ﴾ لابد وأن نفترض ما كان في قلبه هو الشيء المحرّم والمعصية ، يعني ( إن تبدوا المحرّم أو تخفوه ي قلوبكم يحاسبكم به الله ) فالذي يحاسب عليه الله عزّ وجلّ هو ما كان محرّماً ومعصية وإلا لا معنى للمحاسبة فاختصّ مورد الآية الكريمة بخصوص المحرّم ، يعني صار هكذا ( وإن تبدوا ما في انفسكم من المعاصي أو تخفوه من المعاصي ) ، وأنا خصّصت بالمعاصي بقرينة قوله تعالى ﴿ يحاسبكم به الله ﴾ ، فلابد وأن نفترضه معصية وإنَّ الشيء الذي أخفيه ولكنه ليس معصية فهل يحاسبني الله عليه ؟! إنَّ هذا لا يحتمل كونه مقصوداً ، فبقرينة ﴿ يحاسبكم به الله ﴾ يعني من المعاصي والذنوب ، فإذا كان هذا هو المقصود ، فحينئذٍ نقول من قال إنَّ قصد التجرّي مصداقٌ للمعصية حتى يكون شمولاً للآية الكريمة ؟!!
عود إلى صلب الموضوع:- ذ كرنا أنه يوجد إشكالان الأوّل إنَّ قصد التجرّي إذا قلنا هو معفو عنه لهذه النصوص الدالة على العفو فهذا يلزم منه التشجيع على المعصية وهذا خلاف اللطف ، فالله عزّ وجلّ ينبغي أن يفعل اللطف واللطف هو ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية هذا يقرّب من المعصية فهذا ليس لطفاً ، فليس من المناسب أن يفعله الله عزّ وجل.
وعلى منواله كما قلنا الاشكال الآخر وهو إنَّ قوله تعالى ﴿ إن تجتنبون كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم ﴾ يعني الصغائر فقد يقول قائل إنَّ تكفير الصغائر يلزم منه التشجيع على ارتكاب المعصية وبالتالي هذا عكس الهدف المنشود فهو خلاف اللطف ، فروح الاشكال فيهما واحدة.
وأما الجواب:- نقول إنَّ الإنسان عادةً لا يشبع رغباته قصد المعصية التخيّلية إنما الذي يشبع رغباته هو قصد المعصية الحقيقية بنظره ويهمّ على تلك المعصية فيمد يده ويشرب الإناء ، وإلا فالقصد وحده لا يشبع الرغبة ، إنما الذي يشبعها هو مع الفعلية بأن يمدّ يده ، وبعد أن مدّ يده بقصد المعصية الحقيقية اتضح أنه ليس خمراً وإنما خلاف ما كان يتصوّر ، ففي مثل هذه الحالة لأجل أن لا يسد الله تعالى عليه الباب فيقال له إنَّ هذا معفو عنك ، وهذا يتضح بعد أن ارتكب وانكشف الخطأ ، فلابد أن نفترض أنه يرتكب ما يعتقد أنه معصية حقيقية ثم يتضح الخلاف بعد ذلك ، فإذا اتضح الخلاف وثبتنا العفو عن هذا القصد كيف يصير الشجيع ؟! إنَّ التشجيع لا يتصوّر ، لأنَّ المكلف من الأوّل هو لا يدري أنَّ هذا من قصد المعصية التخيّلي وإنما يتصوّر أنه من قصد المعصية الحقيقية ولذلك هو يقدم عليه ويفعله ثم يتضح الخلاف ففي مثل هذه الحالة إذا ثبت العفو ، فلا يحصل تشجيع على المعصية فإنَّ هذا لا يتصوّر أبداً.
وأما ما ذكر في آية ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون نكفر عنكم سيئاتكم ﴾:- فتكفير الصغائر يكون بشرط اجتناب الكبائر كلّها طيلة العمر إلى حدّ الموت ، فاذا اجتنب الكبائر كلّها فالله عزّ وجلّ يكفّر الصغائر ، ومن الذي يحرز من نفسه أنه يجتنب جميع الكبائر طيلة حياته ؟! إنه لا يجزم أحد بذلك فإنَّ الشرط غير محرز عندنا ، نعم إذا أحرز الانسان ذلك فهنا يلزم من غفران الصاغر التشجيع ، ولكن هذا الاحراز غير متحقق فلا يلزم التشجيع على الحرام.
إذن كلا الاشكالين مندفعان.
والخلاصة من كل ما ذكرناه:- إنَّ اثبات الحرمة للفعل المتجرّى به شيء مشكل ، لأنّ اثبات الحرمة هي إما أن تكون بالدليل الأوّلي ، أو بقاعدة الملازمة ، أو بالأخبار ، والكل مشكل ، فإثبات الحرمة للفعل المتجرّى به شيء مشكل.
النقطة الثالثة[1] :- هل يعاقب المتجرّي أو لا ؟
ذكر الشيخ الأعظم(قده) أن العقاب منتفٍ أيضاً ، فإنَّ التجرّي يكشف عن سوء السريرة فقط وفقط سوء السريرة ليس من الأشياء التي يثبت عليها العقاب ، فالعقاب ليس بثابت ، ونصّ عبارته:- ( واستحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل[2] لا يوجب استحقاقه[3] على نفس الفعل ومن المعلوم إنَّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنما يلازم استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلق بالفعل لا بالفاعل )[4] ، يعني يريد أن يقول إنَّه إذا كان يستحق الذم على نفس الفعل فاستحقاق العقاب على الفعل موجودٌ فإنَّ استحقاق المذمة على الفعل يلازم استحقاق العقوبة ، ولكن المذمّة على الفاعل - أي من كشف بالفعل - يعني سوء السريرة لا يستلزم العقوبة لأن العقوبة إذا كانت على سوء السريرة لا تكون ثابتة لأنَّ سوء السريرة من الأفعال وإذا كان على الفعل فقد قلنا إنَّ الفعل ليس فيه مذمّة.
وأما الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية فقال يوجد استحقاق للعقوبة ، والدليل هو العقلاء ، فإنَّ من تجرأ يوبّخ بل لو ضرب العصا كان ذلك مقبولاً عند العقلاء ، كما لو فهمنا أن هذا الشخص يريد أن يقتل نبياً أو وصياً أو مؤمناً أو أراد أن يقتلني فإذا فهمت أنه يريد أن يقتلني بتصوّر أني عدوه ثم انكشف الخطأ عنده فلو ضربته بالعصا فهذا يقبله العقلاء ، ونصّ عبارته:- ( الحق أنه يوجبه لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته وذمه على تجريه )[5] .
وقد تذكر بعض الوجوه لإثبات استحقاق المتجرّي للعقاب:-
الوجه الأوّل:- ما نقله الشيخ النائيني(قده) عن استاذه المجدد الشيرازي(قده)[6] ، وقد ذكر السيد الشيرازي(قده) كلاماً طويلاً حيث ذكر أربع مقدّمات المقدّمة الثالثة منها - ولعله الرابعة أيضاً - تصلح وحدها أن تكون دليلاً بلا حاجة إلى ضمّ ما قبل وما بعد ، وسنذكر هذ المقدّمة فقط.