الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/04/06
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث التجرّي - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
وفيه:-
أما بالنسبة إلى الجمعين اللذين ذكرهما الشيخ الأعظم(قده)[1] فيمكن أن يقال:- إنَّ الجمع لابد وأن يكون العرف مساعداً عليه بحيث لو طرح ذلك على العرف جمع بذلك الجمع أما أن نجمع كيفما اتفق من دون أن تساعد ألفاظ الروايات عليه فهذا ما يصطلح عليه بالجمع التبرّعي ، نظير ما صنعه الشيخ الطوسي(قده) في روايات العذرة حيث توجد طائفتان من الروايات طائفة تقول إنَّ ثمن العذرة سحت والأخرى تقول لا بأس بثمن العذرة والشيخ الطوسي حمل ما دل على ثبوت البأس على عذرة الانسان وحمل ما دل على عدم ثبوت البأس على عذرة الحيوان غير الإنسان ، وهناك قرأنا أنَّ هذا جمع تبّرعي والعرف لا يساعد عليه ولفظ الروايتين لا يساعد عليه ، وهنا أيضا كذلك فإنَّ هذان الجمعان اللذان ذكرهما الشيخ لا يساعد عليهما العرف ، يعني لو طرحت هاتان الطائفتان للعرف فسوف لا يجمع بالطريقة التي ذكرها الشيخ الطوسي(قده) وإنما هو تبرّع بالجمع كيفما اتفق ، وهذا ليس بحجة ، إنما الحجة والمقبول هو الجمع العرفي لا الجمع التبرّعي.
وأما ما ذكره السيد الشهيد(قده)[2] فيردّه:- إنه لو رجعنا إلى الطائفة الأولى الدالة على ثبوت العقوبة نجدها لا تثبت الاستحقاق فقط بل تثبت فعلية العقاب ودخول النار بالفعل والتعذيب بالفعل ، ومن الواضح أنه حينما نلاحظ الروايات يكفينا رواية واحدة منها لردّ السيد الشهيد(قده) إذا كانت تدل على الفعلية فإنَّ المعارضة سوف تبقى حينئذٍ ، ولا يلزم أن تكون جميع الروايات دالة على الفعلية.
فإذن لا يدافعنَّ مدافع عن السيد الشهيد(قده) ويذهب إلى روايات الطائفة الأولى ويتعب نفسه ويعثر على رواية تتلاءم مع ما ذكره فإنَّ هذا لا يكفي في دفع الاشكال عنه مادام توجد رواية واحدة في روايات الطائفة الأولى تدل على الفعلية فإنَّ المعارضة سوف تثبت وتستقر بلحاظ هذه الرواية الواحدة.
ولو رجعنا إلى الطائفة الأولى نجد رواية منها تقول:- ( إنما خلّد أهل النار في النار لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ... ) ، فإذن الرواية تثبت الخلود بالفعل في النار لا أنه يستحق التخليد ، فإذن هو يعيش العذاب الفعلي لا العذاب الاستحقاق.
وتعال إلى الرواية الثانية عن زيد بن عليّ عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي تقول:- ( إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنة القاتل والمقتول في النار ) ، فالمفهوم منها أنه يعذّب بالفعل بالنار ، فهو يخبره بأنهما في النار ، فلا يلزم أن تكون كل الروايات ظاهرة في الفعلية وإنما تكفينا واحدة ولو الرواية الأولى فإنها ظاهرة في الفعلية وهي تكفينا في استقرار المعارضة.
إذن كلا الجمعين اللذين ذكرهما العلمان قابلان للمناقشة.
والأنسب أن يقال:- نحن نطبّق فكرة التقييد ، بمعنى أنَّ الطائفة الثانية دلت على العفو وعدم العقاب على المتجرّي هو عام وجاءت روايات الطائفة الأولى وأخرجت من هذا العموم بعض العناوين التي لها أهمية ، أو بتعبيرٍ آخر: التي يكون ذنبها ذنباً شديداً وليس خفيفاً ، فالعفو ثابت للجميع إلا من كان ذنبه شديداً بهذا الشكل أو بهذا الشكل أو بذاك الشكل ، فتعال إلى الروايات فلاحظ هذا المعنى ، وهكذا بالنسبة إلى الآيات الكريمة تجد أنَّ فيها عناوين خاصة:-
أما بالنسبة إلى الآيات:- فمثلاً قوله تعالى ﴿ إنَّ الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ﴾ ، فنقول هنا توجد خصوصية للفاحشة وإشاعة الفاحشة لا أنَّ قصد كلّ ذنبٍ وحبّه يوجب النار ، كلا بل توجد خصوصية لارتكاب الفاحشة بل أكثر من ذلك وهو إشاعة الفاحشة ومحاولة تثبيت الفاحشة في كلّ المجتمع وهذا ذنب خاص نقول هو قد خرج من تلك الروايات العامة.
أو الآية الكريمة التي تقول ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً ﴾ ، نقول إنَّ العلو في الأرض والفساد فيها له خصوصية فإنه من الذنوب الكبيرة فهذا يستثنى من العفو فيصير تخصيصاً.
وتعال إلى الروايات:- فمثلاً الرواية الأولى فإنها قالت:- ( إنما خلّد أهل النار في النار لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ) ، فذنبه هو من هذا القبيل وهو أنه يوجد عصيان أبدي في الدينا فهذا له خصوصية فخرج من الطائفة الثانية الدالة على العفو هذا العنوان - وهو الذي يكون مصمّماً على العصيان الأبدي - فنقول إنَّ هذا له خصوصية.
وهكذا بالنسبة إلى الرواية الثانية عن زيد بن علي:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:- إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة القاتل ولمقتول في النار فقيل يا رسول الله:- القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال:- لأنه أراد قتلاً ) ، فنقول إنَّ هذا الذنب له خصوصية لأنه قتلُ نفسٍ بريئة فيمكن أن نقول حينئذٍ بالتخصيص.
وسوف تصير النتيجة:- هي أنَّ من نوى ارتكاب محرّم فهو معفوّ عنه ولكن خرج بالتخصيص موارد وهي التصميم والذي يحبّ إشاعة الفاحشة والمصمّم على العصيان الأبدي ..... وهكذا فهذه عناوين خاصّة خرجت من العموم المذكور ، فإنَّ المسألة هي مسألة عام وخاص لا كما ذكر الشيخ الأعظم(قده) ولا كما ذكر السيد الشهيد(قده).
بيد أني أقول:- إنَّ هذا كله يأتي إذا قلنا بأنَّ هذه النصوص تشمل المتجرّي ، فإذا كانت تشمله فيأتي ما ذكرناه يعني تأتي عملية التخصيص بالشكل الذي أشرنا إليه ، ولكن يمكن إن نقول: إنَّ جميع الآيات والروايات خارجة عن المتجرّي وناظرة إلى من قصد المعصية الحقيقية ، فإذن هي من البداية خارجة عن محل الكلام فلا نحتاج إلى وجه جمع بينهما ، فلاحظ الآيات الكريمة أوّلاً فهي قالت:- ﴿ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ يعني من المحرّمات ، فالمحرّم سواء تبديه في الخارج أو تخفيه في نفسك فسوف يحاسبك الله عز وجل عليه ، هذا إذا كان الشي محرماً بالتحريم الواقعي الحقيقي ، ولا يشمل ما إذا كان محرّماتً خيالياً ووهمياً وهو ليس بحرام ، فهو لم يقصد الحرام وإنما قصد الحلال بتخيّل أنه حرام ، فالآية من الأوّل لا تشمله.
وهكذا بالنسبة إلى الآية الثانية التي تقول:- ﴿ إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ﴾ فهي واردة في حبّ اشاعة الحرام الواقعي ولا تشمل الحرام التخيّلي ، فإذن لا يمكن أن نثبت بها أنَّ قصد التجرّي محرّم.
وهكذا الآية الثالثة التي تقول:- ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا ﴾ فهي أيضاً ناظرة إلى الفساد الواقعي لا من أراد الفساد التخيّلي.
فإذن الآيات أجنبية عن محل الكلام.
وتعال إلى الروايات:- أما الرواية الأولى التي تقول ( إنما خلّد أهل النار في النار لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ) ، فمن الواضح أنها ناظرة إلى العصيان الحقيقي لأجل أنه يريد معصية الله يعني المعصية الحقيقية ، أما المعصية التوهّمية فليست شاملة لها.
وأما الرواية الثانية التي تقول:- ( إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة القاتل والمقتول في النار .... فقيل:- القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال: لأنه اراد قتلاً ) ، فهو أراد المحرّم الواقعي لا أنه أراد المحرّم التوهمي ، وهكذا الرواية الثالثة.
فإذن الآيات والروايات كلّها أجنبية عن محل الكلام ، فلا يصلح التمسّك بها.
إذن اتضح أنه مع قطع النظر عمّا ذكرناه خيراً المناسب أن يكون وجه الجمع من خلال عملية التخصيص ، وهناك جوباً آخر وهو أن نقول إنَّ هذه النصوص أجنبية عن مسألة التجرّي من الأساس وإنما هي ناظرة إلى من قصد المعصية الحقيقية ، فهي إذن لا تعمّ مقامنا.
إشكال وجواب:-
أما الاشكال:- فهو أنَّ الطائفة الثانية قد دلت على العفو عمّن قصد ارتكاب الحرام لكنه لم يوفّق إلى فعله ، ولكن أوليس العفو هو نحو تشجيعٍ على المعصية وعلى قصد المعصية ؟ ، لأنه الانسان إذا فهم أن هذا يعفى عنه فإذن هو سوف يحقّق قصد المعصية مادام أنه يعفى عنه وهذا في الحقيقة تشجيع على ارتكاب قصد المعصية ؟
ونفس الشيء يأتي في قوله تعالى:- ﴿ إنَّ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم ﴾ ، يعني نكفر عنكم الصغائر ، وهذا سوف يصير تشجيعاً على فعل الصغائر مادامت تُكفَّر ، ، فإنَّ الاشكال من وادٍ واحد في مقامنا وفي هذه الآية ، فكيف الجواب ؟