الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/04/01
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث التجرّي - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
هذا كلّه لو نظرنا إلى القطع فقط[1] فيأتي كلام الشيخ النائيني(قده) المركّب من شقوقٍ ثلاثة ، أما إذا نظرنا إلى مورد آخر للمتجرّي في غير حالة القطع فهنا نقول يمكن ذلك بلا إشكال ، والمورد الثاني الذي يمكن فيه التجرّي في غير حالة القطع هو مورد الأمارة إذا دلّت على خمرية هذا السائل ، فإنه في مثل هذه الحالة يمكن ثبوت الحرمة ، إذ يقول المكلف مع نفسه ( إنَّ هذه الأمارة لو كانت مصيبة للواقع[2] فأنا لو شربت فسوف أكون عاصياً وإذا كانت مخطئة واقعاً فأنا لو مددت يدي فسوف أكون متجرّياً فهي حجّة مادمت لا أعلم بكذبها وإنما احتمل خطأها واشتباهها واحتمال الخطأ والاشتباه لا يرفع حجيتها فحينئذٍ سوف أترك التناول ).
فإذن يمكن توجيه خطابٍ إلى المكلف في حالة الأمارة وليس في حالة القطع ، إذ في حالة القطع لا يحتمل اشتباه القطع فلا يحتمل أن يكون المكلف متجرّياً ، أما في حالة الأمارة فهو يحتمل اشتباه الأمارة كما يحتمل اصابتها فلو مدّ يده وشرب فيَحتمِل أنه عاصٍ ويَحتمِل أنه متجرٍّ فإذن يمكن أن يتوجه إليه خطاب بالترك فيقال ( من قامت عنده الأمارة لا يجوز مخالفتها حتى لو كان يحتمل خطأها فإنه يكون متجرّياً في مثل هذه الحالة فلا يجوز ) ، فهو لا يجزم بالخطأ إذ لو كان يجزم بالخطأ لم يكن متجرّياً وإنما هو يحتمل خطأها فإذن هو يحتمل أن يكون متجرّياً فيمكن توجيه الخطاب إليه - إي على المتجرّي ولكن على المتجرّي في باب الأمارة - وهذا لا محذور فيه ، نعم في باب القطع لا يمكن لأنه لا يحتمل أنه مخطئاً ، وإلا إذا احتمل أنه مخطئاً فهذا ليس بقاطع فلا يحتمل هو أنه متجرٍّ أبداً ، وهذا بخلاف باب الأمارة حيث يحتمل خطأها فيحتمل أنه متجرٍّ إذا ارتكب فيمكن توجيه الخطاب إليه ، فلا يوجد محذور بعنوان المتجرّي ، فنخاطبه هكذا:- ( لا يجوز للمكلف أن يتجرأ إذا احتمل خطأها فإنه يكون متجرّياً ولا يجوز له ذلك ).
ويمكن أن نجيب بجوابٍ آخر:- وهو أن نختار الشق الثالث[3] والشيخ النائيني(قده) ردّ على ذلك فقال: إن كانت النسبة هي العموم والخصوص من وجه فهذا يتم ، ولكن النسبة هي العموم والخوص المطلق ، لأنَّ المتجري دائماً يرى أنَّ قطعه مصيباً للواقع ، يعني هو دائماً حينما يقطع بالخمرية يرى أنَّ هذا السائل هو خمر واقعي فيلزم اجتماع حرمتين على أمرٍ واحد وهو غير ممكن ، فأصل تشريع الحرمتين غير ممكن.
ونحن نقول :- بل النسبة هي العموم والخصوص من وجه ، ونكتة ذلك:- هي أنَّ الخطاب لو كان يتوجه إلى هذا المتجرّي بخصوصه كزيد بعنوانه بحيث يقال له ( يا زيد القاطع بالخمرية تثبت لك الحرمة لو خالفت ) فصحيحٌ هنا تكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق كما قال ، لأنه حينما يقطع بالخمرية يراه هو الخمر الواقعي فيلزم اجتماع حرمتين ، لكن الخطاب لا يتوجه إلى هذا المكلف بخصوصه وإنما يتوجّه إلى مطلق المكلف المتجرّي أعم من كونه هذا أو ذاك ، فإذن النسبة سوف تصير هي العموم والخصوص من وجه ، حرمة ثابتة لعنوان الخمر الواقعي وحرمة ثابتة لحالة القطع بالخمرية الذي قد يكون مصيباً وقد يكون مخطئاً ، وهنا لا بأس وأن نبرز الاحتمالين وهو أنه قد يكون مخطئاً وقد يكون مصيباً ، لأنَّ الخطاب لم يتوجّه إلى هذا المكلف بخصوصه بل توجه إلى مطلق المكلّف القاطع وهو القاطع بشكلٍ عام بحيث يشمل زيد وعمرو وبكر وخالد ، فهذا القاطع ينقسم إلى قسمين فقد يكون القاطع بالخمرية قطعة مصيباً للواقع وقد لا يكون مصيباً للواقع ، وحينئذٍ تكون النسبة بينه وبين دليل حرمة الخمر الواقعي هي العموم والخصوص من وجه ، والنكتة التي أبرزناها واعتمدنا عليها هي أنَّ الشيخ النائيني(قده) كان يتصوّر أنَّ الخطاب بحرمة مقطوع الخمرية متوجه إلى الشخص فإذا كان متوجهاً إلى هذا الشخص[4] فالنسبة هي العموم والخصوص المطلق كما ذكر ، ولكن بعد أن فرضنا أنه يتوجّه إلى مطلق المكلف القاطع لا إلى خصوص هذا ولا إلى خصوص ذاك فالنسبة نراها من وجه وأنت تراها من وجه وفي نظر الجميع هي من وجه وإن كان بلحاظ الآخرين فأقول: ( كلّ مطوع الخمرية وإن كان مخطئاً ) ، يعني أني أتقبّله لا بلحاظ نفسي فقط وإنما أتقبله بلحاظ الناس الآخرين فإنه قد يكون قطعهم مخطئاً.