الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/03/29
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث التجرّي - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
الرأي الثاني:- وهو الذي يقول ( إذا حكم العقل فلا يمكن أن يحكم الشرع على وفقه ) ، وقد ذهب إلى ذلك السيد الخوئي(قده)[1] ، والوجه الذي استند إليه هو أنَّ العقل إذا حكم بأنَّ الكذب قبيح فهذا الحكم العقلي إما أن يكون قابلاً لتحريك المكلّف نحو ترك الكذب أو لا يكون محرّكاً ، فإن كان محرّكاً فلا معنى لجعل الحكم الشرعي بالحرمة فإنه تحصيل حاصل ، فإنَّ حكم العقل قد حرّك فجعل حكم ثانٍ شرعي لا حاجة إليه ، وإذا لم يكن محرّكًا فالحكم الشرعي أيضاً لا يحرّكه ، فإنَّ من لا يحرّكه العقل لا يحرّكه الشرع ، فإذن لا معنى لأنَّ يجعل الشرع حكماً شرعياً على وفق حكم العقل ، وهذا ما يظهر من الشيخ العراقي(قده)[2] أيضاً.
وفيه:-
أولاً:- نحن نختار الشق الثاني[3] ، فهو قال إذا لم يتحرّك بحكم القعل فسوف لا يتحرّك بحكم الشرع أيضاً ، ونحن نقول:- يمكن للشخص أن لا يتحرك بحكم لعقل لكن يحرّكه حكم الشرع إما حبّاً للشرع أكثر من العقل أو لأنَّ حكم الشرع سوف يكون مؤكِّداً لحكم العقل ، فالشخص إذا دعاني إلى مكانٍ مرةً واحدةً فقد لا استجيب له ولكن إذا أكّد مرة ثانية على ذلك وشدّد الدعوة فحينئذٍ سوف أذهب ، وقد لا أذهب في المرتين ولكن إذا أكّد ثلاث مرات فسوف أذهب ، فعملية التأكيد قد تكون مؤثرة ، لا نه إذا لم يتأثر بحكم العقل فهو لا يتأثر بحكم الشرع ، لأنَّ الشخص قد لا يتأثر بالأحكام العقلية وإنما يتأثر بالأحكام الشرعية ، مضافاً إلى أنَّه تتأكد الدعوة والحكم قد يصير من أحد المحرّكات كما مثّلنا.
ثانياً:- إنَّ ما أفاده يتم بناءً على أنَّ التكليف مجعول بداعي التحريك الفعلي ، وقد ذكرنا سابقاً أنه مجعول بداعي التحريك الشأني لا الفعلي ، فصحيحٌ هو لا يتحرك بالفعل لكن لو علم[4] لتحرّك ، ولو تفكّر مع نفسه وأنَّ هناك يوم قيامة لتحرّك ، فالتحريك الشأني موجودٌ وليس المدار على التحريك الفعلي.
إذن لا يتم ما أفاده إذ يمكن أن نفترض أنَّ حكم العقل لا يحرّك بالفعل وحكم الشرع أيضاً لا يحرّك بالفعل ولكنه يحرّك بالتحريك الشأني ، وهذا يكفي فإنَّ الحكم الشرعي يكون بداعي التحريك الشأني دون الفعلي.
ثالثاً:- إنَّ هذا مخالف لمينى السيد الخوئي(قده) فإنَّ له مبنىً ذكرناه في الفقه ، وهو أنه يرى أنَّ التكليف مجرّد اعتبار لا أنه مجعول بداعي الباعثية والتحريك ، خلافاً للشيخ النائيني(قده) فإنه يقول إنَّ التكليف لا يتعلّق إلا بالمقدور لأنه مجعولٌ بداعي التحريك والباعثية ، والباعثية والتحريك لا يكونان إلا في حقّ القادر ، والسيد الخوئي(قده) يقول: إنَّ التكليف هو مجرّد اعتبار لا أنه بداعي التحريك ، فإذا كان مجرد اعتبار فيمكن فرضه في حقّ غير القادر ، أجل وجوب الامتثال عقلاً مشروط بالقدرة ، فالقدرة شرطٌ لوجوب الامتثال عقلاً لا لأصل التكليف الشرعي.
أقول:- إنَّ ما ذكره هنا يتنافى مع ذلك الكلام ، فهنا قال: إنَّ التكليف مجرّد اعتبار لا أكثر ، الآن أخذ عنصر المحرّكية في التكليف وأن العقل إذا لم يحرّك فالحكم الشرعي لا معنى له حينئذٍ لأنه لا يحرك أيضاً ، إذ كما لم يتحرّك المكلف من حكم العقل لا يتحرّك هنا أيضاً ، فيظهر أنَّ التكليف عنده مشروط بداعي التحريك ، وهذا يتنافى مع ذاك ، فالتفت إلى ذاك.
والمهم لي هو أن تلتفت إلى أنَّ السيد الخوئي(قده) عنده مبنىً قديم وهو أنه يبني على أنَّ القدرة شرط في مرحلة وجوب الامتثال عقلاً وليست شرطاً في ثبوت التكليف.
ثم إنه من خلال مناقشة الرأي الأوّل[5] ومناقشة الرأي الثاني[6] يتضح أنَّ المناسب والصحيح هو الرأي الثالث ، أعني لا توجد ملازمة ضرورية في طرف الوجود ولا في طرف العدم فإذا حكم العقل بقبح شيء فربما يحكم الشارع بالحرمة وربما لا يحكم بها اكتفاءً بحكم العقل ، وهذا الكلام سيّال حتى في مقدّمة الواجب ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه عقلاً ، فهناك نقول إنه في مقدمة الواجب نقول نفس الكلام ، فصحيح أنَّ القعل يحكم بوجوب المقدّمة ولكن لا يلزم أن يحكم الشرع بوجوب المقدّمة بالوجوب الشرعي وإنما يمكن أن يكتفي بحكم العقل ، وهكذا يأتي هذا الكلام في باقي موارد الملازمات غير الشرعية ، أما بناءً على رأي النائيني والأصفهاني يلزم أن يحكم ، أما بناءً على ما ذكرناه فلا يلزم أن يحكم.
ومن جملة من ذهب إلى الرأي الثالث الشيخ العراقي(قده) في هامش فوائد الأصول[7] ، وممن اختاره أيضاً صاحب الفصول على ما نقل الشيخ النائيني عنه[8] .
كلامٌ في تطبيق القاعدة في المقام:-
لو فرض أنا سلّمنا بقاعدة الملازمة فهل يمكن تطبيقها في محل كلامنا[9] ؟ فهل يمكن أن نطبقها ونستنتج من قبح التجرّي حرمة التجرّي بالحرمة الشرعية ؟ ، فقاعدة الملازمة هل نستفيد منها في مسألة الكذب وغيره إذا حرم عقلاً حرم شرعاً ، أو نستطيع أن نطبقها في باب التجرّي فإذا قبح التجرّي حرم أو إذا قبح الفعل المتجرّى به حرم شرعاً ؟
والجواب:- قد يقال: لا يمكن تطبيقها في المقام ، وذلك لوجهين:-
الوجه الأوّل:- ما أفاده الشيخ النائيني(قده) .
وسوف أبين عبارتي وأنت لاحظ عبارته فلعلّ الروح واحدة لكن الألفاظ مختلفة ، فإنه ذكر:- إنه لا يمكن ثبوت الحرمة عند حكم العقل بالقبح الفاعلي ، ونحن نترك الفاعلي ونذهب إلى الفعلي الذي هو نفس الفعل فإذا كان قبيحاً فهل تثبت حرمته بالملازمة ؟ إنه لا يمكن أن تثبت حرمته بالملازمة ، وذلك لأنَّ الحرمة إما أن تثبت بالدليل الأوّلي الذي يقول ( الخمر حرام ) فذاك الدليل نجعله دليلاً على حرمة الفعل المقطوع الخمرية بقطع مخطئ فنقول إنَّ ذاك الدليل هو دليل على حرمة الفعل المتجرّى به ، ومرة نقول: إنَّ الشرع يجعل الحرمة بدليلٍ مستقلٍّ ثانٍ بعنوان التجرّي فيقول ( الفعل المقطوع حرمته[10] بقطع مخطئ حرام شرعاً ) ، ومرّة يفترض أنه يأتي دليل يثبت حرمة الخمر الواقعي وحرمة الخمر المقطوع[11] فيقول ( يحرم عيلكم شيئان الخمر الواقعي والفعل المتجرّى به - يعني المقطوع بأنه حرام بقطع مخطئ - ).
وفرق هذا الاحتمال عن الاحتمال الأوّل الذي قلنا إننا بالدليل الواقعي نثبت الحرمة فهناك حرمة واحدة ثابتة للخمر الواقعي ومنها نريد أن نثبت حرمة الفعل المتجرّى به ، أما في الاحتمال الثالث فنقول إنَّ الدليل يدل على ثبوت حرمتين ، فالتفت إلى هذا.
فإذن الاحتمالات ثلاثة والشيخ النائيني يريد أن يقول إنه لا يمكن أن يثبت حرمة الفعل المتجرّى به بقاعدة الملازمة والوجه في ذلك هو إنَّ الله تعالى إذا أراد أن يحرّمه فهو إما أن يحرّمه بذاك الدليل الأوّلي الذي يحرّم الخمر الواقعي[12] ، أو بدليل ثانٍ بعنوان المتجرّى به ، أو بدليل ثانٍ ولكن بحرمتين حرمة للخمر الواقعي وحرمة ثانية للفعل المتجرّى به ، والثلاثة غير ممكنة ، فإذن لا يمكن اثبات الحرمة الشرعية بقاعدة الملازمة للفعل المتجرّى ، لأنَّ الشرع إذا أراد أن يثبت الحرمة فلابد أن يكون اثباتها بأحد هذه الطرق الثلاث والجميع باطل ، فلا يمكن اثبات هذه الحرمة.