الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث التجرّي - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

الدليل الثاني:- وهو للشيخ الأصفهاني[1] ، وحاصله: إنَّ العقلاء إذا حكموا بشيء بمقتضى عقلهم[2] ومن حيثية عقلهم بأنَّ هذا قبيح فحتماً الشارع سوف يكون معهم ويوافقهم فإنه من العقلاء أيضاً بل هو سيّدهم ، ومن الواضح أنَّ حكم الشارع بالقبح لا معنى له وإنما هو يحكم بما يساوي القبح وهو الحرمة ، فهم يحكمون بالقبح لأنَّ شأن العقلاء ليس هو التشريعات والشرع يحكم بالحرمة حتماً فإنه كأحدهم بل هو سيّدهم.

بل قل:- حتماً هو أحدهم وفي ضمنهم ، ولا تقل يلزم بالملازمة فإنَّ التعبير بالملازمة يكشف عن أنه خارجٌ عنهم موافق لهم وهذا ليس بصحيح ، بل هو واحد منهم غايته كأحدهم ، كرئيس العشيرة فهو واحدٌ من أفراد العشيرة ، فعلى هذا الأساس يلزم أن يحكم الشرع كذلك غايته يكون حكمه بالقبح بالشكل الذي يناسبه والمناسب له هو عبارة عن الحكم بالحرمة ، ونصّ عبارته:- ( حيث عرفت أنَّ التحسين والتقبيح العقليين مما توافقت عليه آراء العقلاء للمصلحة العامة أو للمفسدة العامة فلا محالة لا يعقل الحكم على خلافه من الشارع إذ المفروض أنه مما لا يختصّ به عاقل دون عاقل وأنه بادي رأي الجميع[3] لعموم مصلحته[4] والشارع من العقلاء بل رئيس العقلاء فهو بما هو عاقل كسائر العقلاء وإلا لزم الخلف من كونه بادي رأي الجميع )[5] ، يعني يريد أن يقول: يلزم خلف الفرض ، لأننا فرضنا أنَّ هذا الكذب فيه مفسدة وقبحه من الواضحات لوجود المفسدة فيه فالشارع حتماً يحكم بحرمته ، فإذا لم يحكم فهذا يعني أنَّ مفسدته ليست من الواضحات.

وفيه:- إنك قلت: هو رئيس العقلاء ، ومعنى رئيس العقلاء يعني أنَّ عقله أكبر وليس مساوياً ، وإذا كان عقله أكبر فقد يخالفهم لأنه التفت إلى شيءٍ هم لم يلتفتوا إليه ، وعلى هذا الأساس في كلّ مورد من الموارد نحتمل أنَّ الشارع يلتفت إلى شيءٍ لم يلتفت إليه العقلاء ، فإذا حكموا هم بالقبح فلا يحكم هو بالحرمة لأنه في نظره التفت إلى شيء هم لم يلتفتوا هم إليه ، فمثلاً نقول صحيح أنَّ المقتضي تام ولكن يوجد مانع من الحكم وهو ملتفت إليه ، ولا تقل ما هو المانع المحتمل ؟ فإني أقول: أنا لا أعلم به ، فإني لو علمت فقد صرت أنا رئيس العقلاء ، فنحن نفترض أننا لا نلتفت إليه فلا تضيق عليّ ولا تضيق على نفسك فإنه يوجد شيء قد غاب عن العقلاء وهو مانعٌ يمنع من الحكم بالحرمة ولكن الشارع التفت إليه فبمقتضى كونه رئيس العقلاء لا يحكم.

وإن شئت قلت بصيغة أخرى:- وهي أننا نقول للشيخ الأصفهاني: إنه تارةً نبني على أنَّ الحسن والقبح من الأمور الواقعية[6] ، وأخرى نقول هو ليس قضية واقعية وإنما العقلاء هم فيما بينهم تبانوا واتفقوا لأجل وجود مفسدةٍ في القبح على أنه قبيح فقبح الكذب ليس واقعياً ، والحسن أيضا كذلك فإنَّ الصدق ناشئ من تباني العقلاء وإلا قبل خلق العقلاء الكذب ليس بقبيح والصدق ليس بحسن وإنما بعد أن خلق العقلاء تبانوا على ذلك ، ويعبّر عن ذلك بالآراء المشهورة أو المحمودة وهي ما يتفقون عليه لأجل مصالح أو مفاسد[7] ، فإن بنينا على الأول[8] وأنَّ قبح الكذب أمر واقعي بقطع النظر عن وجود عاقلٍ أو عدم وجوده فحينئذٍ حكم العقلاء بقبحه يكون بمعنى الادراك ، يعني أنهم أدركوا أنه واقعاً قبيح ، يعني أنهم أدركوا ما هو ثابت وكشفوا عمّا هو ثابت لا أنهم اثبتوا ما لم يكن ثابتاً ، فحكم العقلاء بقبحه بمعنى أنهم أدركوا ذلك.

ولنقل للشيخ الأصفهاني:- نعم الشارع يوافقهم في ذلك ولكن بمعنى أنه أدرك أنه قبيح واقعاً ، وهذا لا ينفعنا شيئاً وإنما هو مجرد ادراك على أنَّ هذا الشيء حسناً ولكنه لا يثبت الحرمة الشرعية ، بل أقصى ما يثبت أنَّ الشارع بما أنه رئيس العقلاء فهو بالأولى قد أدرك قبح الكذب وأنه ثابت واقعاً قبل أن يدرك العقلاء ذلك ، أو هو أدركه في طليعتهم ، ولكن هذا سوف لا يثبت الحرمة وإنما هو ادراك للقبح فقط.

فإذن لابد وأن نبني على القول الثاني حتى تثبت الملازمة ، فنقول إنَّ قبح لكذب ليس أمراً واقعياً وإنما هو أمر تبانا عليه العقلاء ، فهم حينما يقولون هو قبيح أي يحكمون لأجل المفسدة بأنه قبيح ، يعني لا ينبغي فعله ، فالشارع إذا حكم ووافقهم بأنَّ هذا الشيء لا ينبغي فعله فهذا سوف يصير حكماً شرعياً فتثبت الحرمة ، فإذن الاحتمال الثاني ينفع في اثبات الملازمة.

ولكن نقول:- بما أنَّ الشارع سيد العقلاء فهو ربما يدرك شيئاً لا يصل إليه العقلاء ، فحكم الشارع بأنه لا ينبغي فعله لا يكون شيئاً لازماً وثابتاً ، فحتى لو فرض أنَّ العقلاء قالوا بأنه لا ينبغي فعله ولكن لعله لا يقول بأنه لا ينبغي فعله لأنه رئيس العقلاء فعقله يكون أكبر فيدرك وجود مانعٍ من الحكم بقبحه وهم لم يدركوا ذلك المانع الذي أدركه.

 


[1] وهو ما مر في اصول المظفر.
[2] والمراد من العقلاء هنا ليس الناس العرفيين وإنما نقصد من العقلاء عهنا بما هم أصحاب عقل لا بما هم عرفيون.
[3] يعني هذا كناية فإن اول لمطالب أوّل ما تسمع بها يصدّقها مثلا ما ان نقول الأربعة تنقسم إلى متساويين أو زوج فإن أول ما يلتفت الانسان يصدق به، فهو بمجرد الالتفات يتخذ راياً وقراراً جازماً فيه انه كذا، فالمقصود ان هذا مادمت توجد فهي مصلحة فالعقلاء ورئيسهم هو وهو الشارع يحكم جزماً فإنه يكون امراً واضحاً.
[4] يعني ان هذه المصلحة ثابتة في نظر جميع العقلاء والشارع من العقلاء مثل الكذب المضر الذي لا نفع فيه فهذا فه مفسدة وه قبيح عند كل العقلاء فإذا لم يكن فيه نفع فهو قبيح لأنه توجد فيه مفسدة وهذا هو بادي رأي الجميع فكل عاقل يقول بذلك فالشارع اولى ان يوقل به ايضاً وقدد قلنا إن حكمه بالقبح عبارة عن حكمه بالحرمة.
[5] نهاية الدارية، الأصفهاني، ج3، ص344، في مبحث الانسداد، ط مؤسسة آل البيت.
[6] – أي بقطع النظر عن وجود العقلاء واتفاقهم على قبحه مثل استحالة اجتماع النقيضين كيف أنها قضية واقعية بقطع النظر عن اتفاق العقلاء هذا اضا نقول هو قضية واقعية.
[7] ولا يهمنا أيهما الصحيح الان.
[8] ومن الواضح أن الأصفهاني لا يبني على الأول وإنما يبني على الثاني.