الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/03/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث التجري - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

ذكرنا أنه توجد عدة آراء في العفل المتجرّى به:- وهي ثلاثة

الأوّل:- إنَّ العفل المتجرى به ليس بقبيح وإنما يكشف عن سوء السريرة وخبثها أما هو فليس بقبيح ، وممن ذهب إلى هذا العلمان الشيخ الأعظم والشيخ الخراساني.

وقد استدل على ذلك بثلاثة وجوه:-

الوجه الأوّل:- وهو ما ذكرناه سابقاً ، وهو ما قد نقلناه عن صاحب الكفاية(قده) وحاصله: إنه إذا كان هناك شيء يوجب قبح الفعل المتجرّى به فهو القطع - قطعي بانه حرام - ومن الواضح أني حيما شربه من دون التفات إلى قطعي بأنه حرام وإنما أشربه بعنوانه الأولي وإنما بعنوان أنه حرام لا بعنوان مقطوع الحرمة ، فإذا إذا لم أكن ملتفتاً إلى هذا العنوان فلا يوجب قبح الفعل ، فإنَّ الذي يوجب قبح الفعل هو القطع بأنه خمر والقطع بالخمرية ليس مقصوداً ولا ملتفاً إليه حين ارتكاب الفعل من قبل الفاعل.

وقد أجبنا عن ذلك بما تقدم.

ثم إنَّ الشيخ النائيني(قده)[1] نقض على الشيخ الخراساني وقال:- أنت قلت إنَّ هذا العنوان - أي عنوان القطع بكونه حراماً أو خمراً أو غير ذلك - ليس ملتفتاً إليه ، ولازم عدم كونه ملتفتاً إليه عدم إمكان توجّه الأحكام لعنوان المقطوع ، يعني لا يمكن أن قول لشخصٍ ( إذا قطعت برؤية هلال شهر رمضان فصم ) فإنك قد قلت بأنَّ القطع ليس ملتفتاً إليه فيلزم من ذلك عدم إمكان تعلّق الأحكام بعنوان القطع والحال أنَّ هذا لا يمكن الالتزام به ، إذ من الوجيه أن أقول للشخص ( إذا قطعت برؤية الهلال يجب عليك الصوم ) ، بينما هذا على رأي صاحب الكفاية يلزم أن يكون هذا غير ممكن لأنَّ عنوان القطع بالهلال غير ملتفت إليه وشرط التكليف إمكان الالتفات إلى موضوع الحكم والمفروض أنَّ الموضوع هنا ليس ملتفتاً إليه.

ويردّه:- إنَّ هذا الاشكال وجيه إذا كان الشيخ الخراساني(قده) يدّعي عدم إمكان الالتفات إلى عنوان مقطوع الخمرية مثلاً فإذا كان يدّعي هذا فما ذكره شيء وجيه ، ولكن يمكن أن يقال: إن الشيخ الخراساني(قده) لا يدّعي عدم إمكان التوجه إلى عنوان مقوع الخمرية وإنما يدّعي أنَّ الانسان عادةً حينما يرتكب مقطوع الخمرية فهو لا يقصد ولا يلتفت إلى عنوان مقطوع الخمرية وإنما يراه خمراً لأنه قاطع بخمريته فهو يشربه لخمريته لا لأنه مقطوع الخمرية ، فهو يدّعي أنه عادةً الأمر هكذا وإن لم يصرّح بكلمة ( عادةً ) ، وإذا كان مقصوده هذا فلا يرد عليه إشكال الشيخ النائيني(قده) حينئذٍ ، فهو لا يريد أن يدّعي استحالة الالتفات إلى مقطوع الخمرية حتى يرد عليه الاشكال ، بل يدّعي أنه عادة من يقطع بخمرية شيء لا يلتفت إلى هذا العنوان وإذا لم يكن ملتفتاً إلى هذا العنوان فلا يصير تناوله هذا قبيحاً لأنَّ الموجب لقبحه هو هذا العنوان وهو ليس ملتفتاً إليه ، فإذن هو لا يريد أن يدّعي الامكان وإنما يريد أن يدّعي أنه عادةً ليس بملتفت إليه ولكن يمكن الالتفات إليه ، كما إذا قيل للشخص ( إذا قطعت بقضية فاشهد بها عند الحاكم ) بحيث أخذ القطع تمام الموضوع لجواز الشهادة عند الحاكم ، فإذا سألنا شخصاً ذاهباً إلى الحاكم إلى اين تذهب فقال أريد أن أشهد عند الحاكم فلو سألناه وقلنا له كيف تشهد عنده ؟ فسوف يقول أنا قاطع بالقضية ، فهو ملتفت إلى قطعه ويذهب إلى الشهادة بعد التفاته إلى قطعة ، فإذن يمكن توجيه الحكم إلى حالة القطع ويمكن أن يقال للشخص ( إذا كنت قاطعاً فاشهد ) فإنه يمكن أن يلتفت المكلف إلى القطع كما في هذا المثال ، نعم هو عادةً لا يلتفت إلى عنوان مقطوع الخمرية وإنما حين الشرب يلتفت إلى كونه خمراً باعتبار أنَّ القطع أخذ بنحو الطريقية دون الموضوعية ، أما إذا أخذ بنحو الموضوعية كأن قيل ( إذا قطعت فاشهد ) فيمكن حينئذٍ أن يلتفت إلى القطع كما في مثال الشهادة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الوجه الأوّل لإثبات عدم قبح الفعل المتجرّى به مع تعليقنا عليه وتعليق الشيخ النائيني(قده) وقد اتضح أنه بتام لكن لما ذكرناه لا لما ذكره الشيخ النائيني(قده).

الوجه الثاني:- ما ذكره العلمان الخراساني والشيخ النائيني حيث قالا: إنّ انكشف الشيء لا يغير من واقعه شيئاً ، فإذا كان واقع الشي مباحاً مثل شرب الماء فإنَّ واقعه ماء فإذا انكشف لك بالقطع أنه خمر فسوف لا يتغيّر واقعه وإنما يبقى هو شرب ماءٍ مباح لا أنه يصير قبيحاً ، فإن انكشاف له الشيء - والمقصود من الانكشاف هو القطع لأنَّ الذي يحقق الانكشاف هو القطع - لا يتغير عّما هو عليه فإن كان حسناً فسوف يبقى حسناً وإن كان قبيحاً فسوف يبقى قبيحاً وإن كان مباحاً فسوف يبقى مباحاً لا أنه يتغيّر المباح ويصير قبيحاً ، ونصّ عبارة صاحب الكفاية(قده):- ( ضرورة عدم تغير الفعل عمّا هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له )[2] ، فعبارته واضحة في هذا ، وقال الشيخ النائيني(قده):- ( انكشاف الشيء لا يزيد عليه بشيء فشرب الماء الخارجي على ما هو عليه من الاباحة الواقعية وعدم القبح في فعله وفي تركه بعد تعلق القطع بخمريته أيضاً )[3] ، يعني يبقى أيضاً على ما هو عليه والقطع لا يغير واقع الشيء.

وفيه:- إنَّ وجداننا يقضي بالعكس ، فإنَّ القطع بكونه محرّماً يمنح الفعل والارتكاب عرفاً وعند العقلاء صفة التمرّد على المولى والاستهانة به ، وإلا لكان في نظر العقلاء المناسب أن لا يشرب ، فأنت مادمت تقطع بأنَّ هذا خمر فنفس مدّ يدك لتناوله يضفي عليه صفة التمرّد والاستهانة بالمولى وبأحكامه فيصير قبيحاً ، لأنَّ الاستهانة بالمولى عنوان حقيقي واقعي يوجب القبح ، فواقعاً أنت تستهين بالمولى لا اعتباراً ، فأنت مادمت قاطعاً بأنَّ هذا خمر فحتى لو فرض أنه كان ماءً واقعاً ولكن مادمت قاطعاً بأنه خمر ومددت يدك إليه فهذا يعدّ استهانة وعدم اعتناءٍ بأوامر وأحكام المولى فيصير حينئذٍ قبيحاً بسب هذه الاستهانة وعدم الاعتناء والاهتمام بأحكام المولى ، كما هو بالعكس فإنه في صورة الانقياد إذا فرضا أنه كان ماءً في الواقع وقطعت بأنه خمر وتركته وقد قلنا للشخص لماذا تركت شربه ، فقال: أنا تركته لأني قطعت بأنه خمر إذ كيف أشرب ما أقطع بأنه خمر ؟!! فنحن نقول له: احسنت على هذا الفعل ، فهذا المدح هو على صفة الانقياد ، وهذا يدل على الاهتمام وتكريم وتعظيم المولى فيكون حينئذٍ حسناً حقيقةً ، لأنَّ هذا التكريم هو تكريم حقيقي والتعظيم حقيقياً ، فكما نسلّم في الانقياد أنه يصير حسناً فلنسلّم في التجرّي أنَّ الفعل يصير قبيحاً.

ولعلّه - والله العالم - حصل خلطٌ بين مسألة القبح ومسألة المصلحة ، فمن زاوية المصالح لا يتغير الشيء عن واقعه بالقطع ، فإذا كانت مصلحة في شربه واقعاً فسوف يبقى كما هو وإذا كانت هناك مفسدة فيبقى كما هو والقطع لا يغير شيئاً ، ففي المصالح والمفاسد ما ذكراه ومسلّم ، أما في باب الحسن والقبح بسبب القطع يتغيّر الحسن والقبح وهذا شيء وجداني والعقلاء ببابك.

وإذا أردت مثالاً للوجدان المتعاكس والمتضارب بنحو القطع فهو هذا المورد:- فالعلمان هما من القمم وكلّ واحدٍ منهما يقطع بأنه ليس بقبيح ، إنه يقول لك إنَّ شرب الماء يبقى شرباً للماء المباح فلماذا يصير قبيحاً ؟!! ، ولكن الاتجاه المعاكس - الذي سوف يأتي - نقول إنَّ الفعل المتجرّى به قبيح بالوجدان لأنه استهانة بالمولى وتمرّد عليه وهتك له.

وقد يقول شخص:- إنَّ هذا ليس من موارد تضارب الوجدانين وإنما هو اشتباه في الوجدان وليس تضارباً.

قلنا:- صحيحٌ أنه لا يوجد تضارب في الوجدان وإنما لابد من اشتباه أحدهما.

وعلى أيّ حال هذا من الموارد الغريبة ، فهم ادّعوا الوجدان بأنه لا يصير قبيحاً وبالانكشاف القطعي لا يتغير الشيء عن واقعه فشرب الماء يبقى هو شرب للماء ولا يصير قبيحاً بالقطع الخاطئ بأنه خمر ، ونحن ندّعي الوجدان على العكس ونقول إنه بالقطع يصير الارتكاب استهانةً وتمرّداً على المولى فهو قبيح.


[1] تراث السيد الخوئي ( أجود التقريرات، الخوئي )، ج3، 50، ط جديدة.
[2] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص260.
[3] تراث السيد الخوئي ( أجود التقريرات )، الخوئي، ج3، ص47.