الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/03/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- تتمة سلب المنجزية عن القطع ، مبحث التجري - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
وفيه:-
أولاً:- يمكن أن نفترض أنَّ المولى يبين هذا المطلب بنحو يحصل القطع لا الاطمئنان - يعني ببيان صريح واضح - فإذا حصل القطع من خلال كلامه ان المولى سلب الحجية عن الاطمئنان فحينئذٍ لا يتم هذا البيان فإنَّ هذا البيان يتم إذا فرضنا أن غاية ما يحصل من الدليل هذا هو الاطمئنان أما إذا فرضنا حصول القطع كما يمكن حصول القطع فحينئذٍ لا يحصل المحذور.
ثانياً:- يمكن للمولى من البداية أن يقول أيها الناس الاطمئنان ليس بحجة ولكن اقيد بغير الاطمئنان الذي يحصل لكم من خلال هذا الدليل فأنا أسلب الحجية عن بقية الفراد الأخرى ولا أسلب الحجية عن الاطمئنان اذلي يحصل لكم من خلال هذا دليلي بنفي الحجية فإن هذا الاطمئنان لا أريد أن أسلب الحجية عنه وإنما أريد أن أسلب الحجية عن بقية الاطمئنانات ، فيمكن للمولى من البداية أن يقول لعبيده هكذا ، فلا يتم هذا البيان.
والخلاصة من كل ما سبق:- إنَّ اثبات الحجية للقطع بالجعل التأسيسي وهكذا للاطمئنان بالجعل التأسيسي ليس بممكن وإنما الممكن هو جعل الحجية لهما بالجعل الامضائي دون التأسيسي لما أشرنا إليه ، وأما سلب الحجية فهي لا يمكن بلحاظهما أيضاً للزوم التناقض في نظر القاطع والمطمئن كما ذكرنا[1] .
مبحث التجرّي:-
والكلام في مبحث التنجرّي يقع في نقاط أربع:-
الأولى:- هل الفعل المتجرّى به قبيح او لا؟
الثانية:- هل الفعل المتجرّى به حرام أو لا ؟
الثالثة:- هل المتجرّي يستحق العقاب ؟
الرابعة:- ثمرة البحث عن قبح التجرّي.
النقطة الأولى:- هل الفعل المتجرّى به قبيح ؟
ذكر الشيخ الأعظم(قده) وهكذا صاحب الكفاية(قده) أنه ليس بقبيح وإنما الذمّ على سوء السريرة ، فأنا حينما أشرب سائلاً أقطع بكونه خمراً ولكنه ماء في الواقع فهذا الشرب هو الفعل المتجرّى به والعلمان قالا بأنَّ هذا ليس بقبيح وإنما الذمّ يكون لا على نفس الفعل وإنما يكون على سوء السريرة ، فإنَّ تناول الانسان لهذا السائل الذي يقطع بأنه خمر وهو في الواقع ليس خمراً يكشف عن أنَّ له سريرة سيئة خبيثة ، فالخبث هو بلحاظ سوء السريرة والقبح هو بلحاظ سوء السريرة والذمّ هو بلحاظ سوء السريرة دون الفعل المتجرّى به ، قال الشيخ الأعظم:- ( إنَّ المتجرّي لا إشكال في استحقاقه الذمّ من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته بذلك وأما استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرى في ضمنه ففيه إشكال )[2] ، وحينما نفى استحقاقه للذم وقال فيه إشكال فهذا معناه أنه متوقّف في قبحه وإلا إذا كان قبيحاً فبلا إشكال يستحق ذلك فتأمله وتوقفه في استحقاقه للذم يكشف عن أنَّ قبحه عنده ليس بثابت.
ويمكن أن نمثل بمثال لتقريب فكرة الشيخ الأعظم(قده) بالألفاظ:- فإنَّ بعض الألفاظ تدل على معاني قبيحة فقبح المعنى لا يستوجب قبح اللفظ مثل كلمة عورة ( يحرم ابراز العورة ) فإنَّ لفظ العورة يدل على معنىً قبيح ، ولذلك لو ذكرت ذلك المعنى القبيح بالصراحة فهو قبيح ، أما هذا القبح للمعنى هو لا يسري إلى لفظ العورة وإنما يبقى لفظ العورة ليس بقبيح ، وكأن الشيخ الأعظم(قده) يريد أن يقول هنا كذلك ، فيقول إنه يوجد قبح في سريرته وهو لا يسري غلى الفعل الذي كشف عن سوء السريرة ، وقلنا إنَّ الشيخ الآخوند(قده) أيضاً ذهب إلى ذلك.
وقد يستدل لذلك ببعض الوجوه:-
الوجه الأوّل:- ما أفاده الشيخ الخراساني(قده) حيث قال: إنَّ أيّ عنوان من العناوين إنما يوجب قبح الشيء إذا قُصِد بذلك العنوان أما إذا لم يقصد ذلك العنوان فلا يلزم أن يكون ذلك الفعل قبيحاً ، وفي المقام نقول إنَّ الذي يستوجب القبح إن كان فهو ليس إلا القطع بالخمرية - يعني كون الشيء مقطوع الخمرية - ومن المعلوم أنَّ المكلف لا يأتي بالفعل ولا يقصد الفعل - يعني هذا التناول - بعنوان مقطوع الخمرية ، يعني لا يقول أنا أشربه نه مقطوع الخمرية وإنما يأتي به بعنوانه الأوّلي أي بعنوان أنه خمر لا بعنوان مقطوع الخمرية ومادام لم يأتٍ به بعنوان مقطوع الخمرية فلا يكون قبيحاً ، قال ما نصّه: ( فإنَّ القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الآلي الطاري )[3] .
وفي الجواب نقول:- هل المقصود أن العنوان لابد وأن يُقصَد بنحو الداعي والغاية وآنذاك يصير الفعل قبيحاً يعين لابد وأن تأتي بشرب هذا السائل لأجل أنه مقطوع الخمرية فالقطع بالخمرية لابد وأن يقصد بنحو الغاية وعلّة الشرب - يعني اشرب لأجل أني أقطع بأن هذا خمر – آنذاك يكون قبيحاً أو أنَّ مقصودك أنه لابد من كون ذلك العنوان مُلتفَتاً إليه وليس مغفولاً عنه ؟
فإن أردت الأوّل:- فلا نسلّم به ، فلو فرض أنه كانت بيدي عصى وضربتك بها من دون أن أقصد إيلامك وإيذاءك وإنما قصدت أن أجرّب العصى فالغرض ليس الايذاء والايلام وإهانة وإنما الغرض هو أن أعرف العصى ولكني أعلم بأنك سوف تتألم فالإيلام أعلم به ولكن لم أقصده فهل هذا الفعل يكون قبيحاً ؟ إنه يكون قبيحاً عند العقلاء بلا إشكال ولا يصحّ له أن يعتذر ويقول إني لم أقصد بضربي إياه إيلامه وإنما قصدت معرفة حال العصى ، فإنَّ الناس يجيبونه: صحيح أنك لم تكن تقصد إيلامه ولكنك كنت تعلم بأنه سوف يتألم ، وهذا معناه أنَّ القبح لا يدور مدار قصد العنوان بل يكفي العلم بتحقق ذلك العنوان وإن لم يُقصَد كغاية وكعلّة.
وإذا كان مقصودك الثاني:- فهذا نسلّم اعتباره ، وهو متحقّق ، فإن العلم المعتبر ليس هو العلم التفصيلي بل يكفي العلم الاجمالي - لكن الاجمالي لا بمعنى ذلك العلم الاجمالي الأصولي - بمعنى أنه متوجه إليه بنحو من الاناء وإن لم يكن متوجهاً إلي بنحو التفصيل وهنا الشخص حينما يشرب هذا السائل الذي هو مقطوع الخمرية له علمٌ بأنَّ هذا مقطوع الخمرية فهو ملتفت إلى هذا العنوان ، والدليل على أنه ملتفتٌ إلى هذا العنوان هو أنه يشرب هذا السائل ولا يشرب غيره ، ولو سألته وقلت له لماذا تشرب هذا السائل وإنما اشرب سائلاً آخر ؟ فلابد أن يجيب بأني اشرب هذا السائل لأني أعلم بأنه خمر ، فإذن علمه ملتف هو إليه وإلا لو لا التفاته إليه في الجملة لما كان يقدم على شرب هذا السائل ولكان يشرب الأفراد الأخرى فتركه للأفراد الأخرى واقتصاره على هذا الفرد شاهد صدق على أنه متوجه إلى علمه فهو يعلم بأنَّ هذا خمر ، فإذن هو ملتفت إليه غاية الأمر ليس بالالتفات التفصيلي وإنما بالالتفات الارتكازي بحث لو سئل لأجاب وقال أنا اشرب هذا السائل لأني أعلم أنه خمر أما ذاك فلا اعلم به ، وهذا المقدار من التوجه إلى هذا العنوان وهو العلم بالخمرية يكفي.