الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/03/15
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- سلب المنجزية عن القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
وفيه:- إنه يمكن أن يقال بالاستحالة من جهة رابعة ، وهي أنَّ المكلّف مادام قد قطع بالحرمة - يعني أنَّ الشارع اعتبر الحرمة - فلا يمكن أن يصدّق باعتبار الرخصة فإنَّ اعتبار الرخصة يعني بالالتزام عدم اعتبار الحرمة فيلزم تحقق اعتبار الحرمة وعدم اعتبار الحرمة وهذا لا يمكن أن يصدّق به عاقل ، لأنَّ هذا معناه التصديق بالمتناقضين ولا يمكن أن يصدّق العاقل بالمتناقضين.
وهذا المحذور الذي ذكرناه لا يأتي في باب الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فإنه في مسألة التبغ مثلاً فإنَّ التبغ يمكن أن يكون حراماً واقعاً ولكن الشرع قد جعل الاباحة ، فإشكال اجتماع المناقضين في نظر الشخص لا يأتي هناك لأننا قد افترضنا أن الحكم الواقعي - وهو الحرمة - مجهول ولا يوجد عنده قطع به فيمكن للشارع أن يجعل الاباحة ولا يلزم في نظر الشخص اجتماع الحرمة وعدم الحرمة لأنه لا يعلم بالحرمة ، أما هنا فالمفروض أنه قاطع بالحرمة ويرى الحرمة ثابتة للشيء فمع قطعه بالحرمة كيف يمكن أن يقطع بالاباحة ؟!! إنَّ قطعه بالاباحة يعني القطع بعدم اعتبار الحرمة فقد قطع إذن بوجود اعتبار الحرمة وعدم وجود اعتبار الحرمة وهذا لا يمكن أن يتحقق في حقّ العاقل ، فإذن الاستحالة تنشأ من منشأ آخر – رابع - وهو ما أشرنا إليه.
هذا مضافاً إلى أنَّ الحرمة وإن كانت هي مجرّد اعتبار والاباحة مجرّد اعتبار والاعتبار سهل المؤونة ولكن حينما يصدر الاعتبار من الحكيم لابد من وجود مبرّرات له ، ومن الواضح إنه لا يمكن أن يصدر من الحكيم اعتبار الحرمة واعتبار عدمها من مبرّرات عقلائية ، نعم هو ممكنٌ في حدّ نفسه فالآن أنا أعتبر وجود النهار وأعتبر عدمه ولكن كعاقلٍ لا يصدر منه الاعتبار إلا عن منشأٍ عقلائي لا يمكن أن ينشأ منّي هذان الاعتباران إلا عن مبررات ، فكيف اعتبر الشيء الواحد ليلاً ونهاراً فهل لهذا مبررات - يعني بالتالي أنا اعتبر النهار ولا أعتبر النهار - ؟!! إنه لا يمكن اعتبار المبرّرات فيه فلا يمكن أن يصدر من الحكيم ، فإذن صحيح هو مجرّد اعتبار ولكن الاعتبار من الحكيم ينشأ من مبرّرات عقلائية ولا توجد مبررات عقلائية في اعتبار الحرمة وعدم اعتبارها - لأنَّ اعتبار الرخصة يعني بالالتزام عدم اعتبار الحرمة - ، فإذن اعتبار الحرمة وعدم اعتبارها لا يوجد فيه مبررات عقلائية فلا يمكن صدوره من الحكيم ، نعم في حدّ نفسه يمكن صدوره فإنَّ الاعتبار سهل المؤونة فيمكن أن يعتبر الانسان الآن ليلاً ولا يعتبره ليلاً ولكنه كعاقل يحتاج إلى مبرّرات ، وحيث إنَّ المبررات ليست موجودة في اعتبار الحرمة وعدم اعتبار الحرمة في وقتٍ واحد فإذن لا يمكن صدور هذا من الحكيم.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أن ما ذكره الأصوليون كوجهٍ لإثبات عدم إمكان سلب المنجزية عن القطع وأنه يلزم اجتماع المتناقضين إما واقعاً وفي نظر القاطع معاً أو على الأقل في نظر القاطع فقط شيء وجيه كما أوضحنا ، وهو تامٌّ ولا بأس به.
نعم للأصوليين دليلاً آخر لعدم إمكان سلب المنجّزية عن القطع حيث قالوا:- إنَّ الحجية لازم ذاتي للقطع وللازم الذاتي لا يمكن سلبه عن الذات ، كالزوجية تسلبها عن الأربعة فإنَّ هذا غير ممكن ، إذ لازمه تحوّل الأربعة إلى ثلاثة ، أما بعد فرض كونها باقية أربعة فلا يمكن سلب الزوجية عنها ، فإنَّ الذاتي لا يمكن سلبه عن الذات[1] .
وهذا الدليل قابل للمناقشة حيث يقال:- إنَّ الذاتي إنما لا يمكن سلبه عن الذات إذا كان ذاتياً بنحو التنجيز ، وإما إذا كان تعليقياً ومعلّقاً فلا محذور من سلبه[2] .
وفي المقام نقول:- صحيح أنَّ الحجية هي لازمٌ ذاتي للقطع ولكن لعلّها لازم ذاتي للقطع إن لم يسلب الشرع عنها المنجزيّة ، يعني هي لازم ذاتي بنحو التعليق وليس بنحو التنجيز ، فتحتاج إذن إلى أن تثبت أنَّ الشارع لا يمكن له سلب المنجّزية عن القطع حتى يصير التنجيز لازماً ذاتياً بنحو التنجيز ، وهذا عين المتنازع فيه وعين المطلوب اثباته؟!!!
هذا كلّه عن القطع وقد اتضح انه لا يمكن سلب الحجية عنه للدليل الأوّل وليس للدليل الثاني.
ونقول شيئاً جديداً:- وهو ما حكم الاطمئنان فهل يمكن سلب الحجية عنه أو لا ؟
والجواب:- إنَّ نفس الدليل الأوّل الذي ذكرناه لعدم إمكان سلب المنجّزية عن القطع يأتي في الاطمئنان فيقال: إنه إذا سلب الشارع المنجّزية عن الاطمئنان وذلك بجعل الاباحة فهذا معناه أني حصل لي اطمئنان بتحقّق الحرمة وعدم الحرمة - يعني الاباحة - ، وكما أنَّ القطع بتحقّق الحرمة وعدمها شيء مستحيل ولا يمكن أن يحصل للعاقل كذلك الاطمئنان بتحقّق الحرمة وعدمها لا يمكن أن يتحقق.
وقد يقول قائل:- يوجد دليل آخر لإثبات عدم إمكان سلب المنجزية عن الاطمئنان وذلك بأن يقال: إذا سلب الشرع المنجزية عن الاطمئنان وقال ( قد جعلت الاباحة رغم اطمئنانك بالحرمة ) فغاية ما يحصل هو الاطمئنان بعدم حجية الاطمئنان ، وقد فرضنا أنه سلب الحجية عن الاطمئنان فلا يكون هذا الاطمئنان حجة.