الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/03/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- سلب المنجزية عن القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

سلب المنجزية عن القطع:-

تعرضنا فيما سبق إلى اثبات الحجية والمنجزية للقطع وانتهيا إلى أن اثبات الحجية بنحو الجعل التأليفي التأسيسي لا يمكن للبيان الذي ذكرناه وإما بالجعل الامضائي فهذا لا محذور فيه ، والآن نريد التحدث عن سلب الحجية والمنجّزية عن القطع فهل يمكن ذلك أو لا ؟

وفي هذا المجال ذكر غير واحدٍ من الأصوليين ونهم الشيخ الأعظم(قده)في الرسائل[1] والشيخ الخراساني(قده) في الكفاية[2] أنه لا يمكن ذلك ، لأنه يلزم اجتماع المتناقضين في نظر القاطع ، بل وفي الواقع أيضاً عند فرض اصابة القطع وفي نظر القاطع فقط عند فرض الخطأ ، يعني حينما أقطع بأنَّ هذا خمر مثلاً فإذا كان قطعي مصيباً والشارع قال تناوله فإنه ليس بخمر فهذا يلزم منه اجتماع المتناقضين في الواقع لأنه خمر في الواقع إن كان قطعي مصيباً ، فإذا حكم عليه بأنه ليس بخمر ويجوز تناوله فهذا يلزم منه اجتماع المتناقضين بلحاظ الواقع وفي بنظري أنا القاطع ، وإذا كان قطعي مخطئاً فلا يلزم اجتماع المتناقضين بلحاظ الواقع وإنما يلزم بلحاظ نظر القاطع فقط ، وكلاهما مستحيل ، فكما لا يجتمع المتناقضان بلحاظ الواقع لا يمكن اجتماعهما بنظر القاطع ، فلا يمكن أن يصدّق الانسان أنه يوجد الآن ليل ويوجد نهار أيضاً.

بيد أنَّ السيد الشهيد(قده) ناقش ذلك وقال:- لماذا لا يمكن سلب المنجّزية ؟ إنَّ الاحتمالات ثلاثة في هذا المجال: -

الاحتمال الأوّل:- أن يقال: إنه يلزم أن تجتمع الحرمة والاباحة ، الحرمة باعتقادي أنَّ هذا خمر ، فانا اعتقد أن هذا خمر ، والاباحة لأنَّ لازم سلب المنجّزية يكون بجعل الاباحة ففي صورة القطع بالخمرية يقول لي مباح لك شربه فيلزم اجتماع الحرمة والاباحة.

والخلاصة:- إنه يقال: لا يجوز سلب المنجّزية لأنَّ لازم سلب المنجّزية هو أنه لو قطعت بالحرمة فالشارع سوف يجعل الاباحة ولا يمكن اجتماع الاباحة مع الحرمة.

أجاب:- بأنَّ هذين حكمان اعتباريان فإنَّ الحرمة والاباحة مجرّد اعتبار والاباحة مجرّد اعتبار والاعتبار سهل المؤونة فيمكن أن اعتبر الآن ليل واعتره نهار أيضاً ولا محذور في ذلك ، فعلى هذا الأساس يمكن أن يعتقد المكلّف بأن هذا خمر حرام وأنَّ الحرمة ثابتة ونفترض أنَّ قطعه مصيب ، فصحيح أنَّ الحرمة ثابتة ولكن الشرع يثبت الاباحة وأي محذور في ذلك ؟!! فإن نفس الحرمة ونفس الاباحة بما هما ليسا متنافيين بل هما مجرّد اعتبار ولا محذور في اجتماع الاعتبارين المتنافيين ، كما لو اعتبرت الآن هو ليل وهو نهار إلى غير ذلك من الاعتبارات المتنافية.

البيان الثاني:- أن نقول إنه لا يمكن اجتماع هذين الاحتمالين من باب أنَّ الحرمة ناشئة عن مبادئ هي عبارة عن المفسدة اللزومية والمبغوضية اللزومية الشديدة بينما الاباحة ناشئة عن مبدا آخر وهو مبدأ المصلحة ولو الخفيفة أو ما شاكل ذلك ، فصحيح أنَّ الحرمة بما هي حرمة وكاعتبار لا مانع من اجتماعها مع الاباحة بما هي اعتبار إذ اجتماع الاعتبارين المتنافيين لا محذور فيه ولكن لو التفتنا إلى أن هذا الاعتبار ناشئ عن مبادئ تتنافى مع المبادئ الناشئ منها الاعتبار الثاني تحصل المنافات بسبب تنافي المبادئ ، فالامتناع من ناحية المبادئ ، والمبادئ أشياء حقيقية وليس أشياءً اعتبارية ، يعني أنَّ المصلحة هي أمر حقيقي في الشيء والمفسدة هي أمر حقيقي في الشيء فكيف يجتمع في الشيء الواحد مصلحة ومفسدة ؟!!

إذن نقول: لا يمكن سلب الحجية عن القطع لأنَّ سلب الحجية يكون بجعل الاباحة في مورد مثالنا ولكن بما أنَّ الاباحة ناشئة عن مصلحة خفيفة والحرمة ناشئة عن مفسدة شديدة فتحصل المنافاة من حيث المبادئ وليس من حيث الحرمة والاباحة بما هما اعتباران وبما هما حرمة واباحة فإنَّ ذلك اعتبار والاعتبار سهل المؤونة ، كلا بل من حيث المبادئ المتنافية.

قال في الجواب:- نحن نسحب الجواب المذكور في باب الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، فإنَّ نظير هذه المشكلة قد واجهت الأصوليين في مبحث الحكم الظاهري والواقعي وهناك طُرِح هذا الاشكال فإنه في ذلك البحث قيل إذا فرض أنَّ المكلّف لم يعلم بأنَّ هذا خمر واقعاً وإنما هو مشكوك فالشارع يجعل حكماً ظاهرياً ويقول ( كلّ شيء لك حلال حتى ترعف أنه حرام ) فيلزم اجتماع الاباحة مع الحرمة الواقعية ؟ ، فهذا الاشكال قد ذكر هناك.

وفرق بحثنا عن مبحث الأحكام الظاهرية والواقعية:- هو أنه في مبحث الحكم الواقعي والظاهري لا يوجد قطع وإنما يوجد شك وجهل ، فأنا لا أدري واقعاً ما هو حكم صلاة الجمعة ، فيوجد حكم واقعي أنا لا أعلم به ويوجد حكم ظاهري من قبل الشارع ، أما في مسألتنا فأنا أعلم بالحكم الواقعي ، فأنا أعلم بأنَّ هذا خمر والشارع يريد أن يسلب المنجّزية بجعل الاباحة ، فالفرق إذن هو أنه في موردنا يوجد قطع بالواقع ، أما هناك فلا يوجد قطع ، ولكن المشكلة التي واجهت الأصوليين هنا نفسها موجودة هناك فبماذا أجاب الأصوليون هناك في مسألة الحكم الظاهري والواقعي حيث قيل إنه يلزم اجتماع حكمين بلحاظ مبدأين فيحصل التنافي من حيث المبدأين وأن لم يحصل التنافي من حيث الحكمين لأنهما اعتباران لكن يحصل تنافٍ من يحث المبادئ فنسحب ذلك الجواب إلى هنا ، فمثلاً أجاب البعض ومنهم السيد الخوئي(قده): بأنّ الحكم الواقعي ملاكه قائم في متعلقه ، يعني مثلاً الخمر حينما كان حراماً فالحرمة نشأت من المفسدة في متعلّق الحرمة ، وأقصد من المتعلق المعنى اللغوي ولا أريد منه المعنى الاصطلاحي الأصولي يعني من الخمرية ، فلكون الخمر فيه مفسدة واقعية ثبتت الحرمة ، فالحرمة الواقعية ناشئة من المفسدة في المتعلّق ، أما الاباحة الظاهرية التي أثبتها الشارع فهي قائمة في أصل جعل الحكم لا في المتعلّق - وهل جوابه صحيح أو لا فهذا لا يهمنا الآن - فاختلف حينئذٍ متعلّق المبدأين ، فإنَّ متعلّق المبدأ الواقعي هو متعلّق الحكم الواقعي أعني شرب الخمر الواقعي وهي المفسدة وهي قائمة بشرب الخمر الواقعي - الذي هو متعلّق الحرمة الواقعية - ، أما المبدأ للحكم الظاهري فهو ثابت في أصل الجعل دون متعلّق الجعل ، فيقول إذا قبلنا بهذا الجواب هناك فلنقبله هنا فحينئذٍ ترتفع المنافاة ولا مشكلة.

الاحتمال الثالث:- أن نقول بأنَّ التنافي بين الحكم الواقعي المقطوع وبين الحكم الثاني المجول اذلاي به تسلب المنجّزية عن القطع وهو الاباحة مثلاً فانا قطعت بحرمة هذا الشيء فإنه خمر فهو حرام والشرع يريد أن يسلب المنجّزية فيجعل الاباحة فالمنافاة تحصل بين تلك الحرمة المقطوعة وبين الاباحة - التي من خلالها سلبت المنجّزية عن القطع - لا بما هما حرمة وإباحة كما في الاحتمال الأوّل فإنا أجبنا بأنهما اعتباران ، ولا باعتبار الملاكات واجتماع المصلحة والمفسدة فإنَّ هذا هو الاحتمال الثاني وقد أجبنا عنه وإنما باعتبار عالم المحركّية ، فالحرمة المقطوعة تحرّك نحو الترك والاحجام بينما الاباحة التي جعلها الشارع والتي بها سَلَب المنجّزية تقول لا مانع من الارتكاب ، والتحريك نحو الترك دون الفعل يتنافى مع الترخيص في الفعل فإنه تحصل بينهما منافاة بلحاظ عالم التحريك.

أجاب عن ذلك وقال:- إنَّ هذه المنافاة إنما توجد وتثبت إذا لم يسلب الشارع المنجّزية عن القطع ، أما بعد أن سلب المنجّزية عن القطع بجعل الاباحة - ومقصودي من القطع هو القطع بالحرمة في المثال - فتلك الحرمة المقطوعة سوف لا تحرّك نحو الترك ، فتبقى الاباحة المجعولة وحدها ترخّص في الارتكاب وتحرك نحو الارتكاب نحو التخيير ، فإذن المنافاة بلحاظ عالم المحركية إنما تتحقق لو لم يسلب الشرع عن ذلك القطع بجعل الاباحة أما بعد أن سلب المنجّزية وجعل الاباحة فتلك الحرمة المقطوعة سوف لا تحرك نحو الترك فحينئذٍ تبقى الاباحة المجعولة تحرك نحو العفل بنحو الترخيص من دون معارضة ومن دون منافاة[3] .


[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج1، ص31، ط جديدة.
[2] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص258، ط مؤسسة آل البيت.
[3] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، ج4، ص31.