الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/03/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حجية القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

كما ويترتّب على ذلك شيء آخر مهم:- وهو أنه يمكن جعل الأصول العملية المعذرة في جميع أطراف العلم الاجمالي رغم وجود القطع ، فإذا قطعت بأنَّ أحد الأواني الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة خمراً فيمكن جعل أصل البراءة في كلّ واحدٍ من الأطراف ، يعني أنَّ دليل ( كلّ شيء لك حلال )[1] يمكن تطبيقه على الجميع لأجل أنَّ هذا حكم عقلائي وليس حكماً عقلياً ، فصحيحٌ أنه يوجد قطع بخمرية واحدٍ وحرمته ولكن الحكم بقبح الظلم حكم عقلائي وليس عقلياً وإذا كان حكماً عقلائياً فيمكن للشارع أن يمنع عنه ويجوّز ارتكاب جميع الأطراف ، بخلافه بناءً على أنه حكم عقلي فحينئذٍ لا يكون قابلاً لجريان الأصل العملي في جميع الأطراف.

والشيخ الأصفهاني(قده) ذهب إلى أنَّ قبح الظلم وحسن العدل من الأحكام العقلائية وليسا من الأحكام العقلية كاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ودلليه على ذل أنه قال:- إنه قد قرأنا في المنطق أنَّ القضايا العقلية ست - وهي الأوليات والحدسيات والفطريات والمشهورات والتجريبيات ..... - وحسن العدل وقبح الظلم ليس داخلاً في أحد هذه القضايا الست وذلك يكشف عن أنَّ قضية قبح الظلم وحسن العدل ليست من الأحكام العقلية ، إذ لو كانت من الأحكام العقلية والمفروض أنَّ الأحكام العقلية ترجع إلى ست قضايا لدخلت في واحدةٍ منها وهي ليست منها فيثبت أنها ليست من الأحكام العقلية بل العقلائية التي قرّرها المجتمع وفقاً للمصالح.

وفيه:-

أوّلاً:- إنه بناءً على ما ذكره يلزم أنه قبل أن يخلق الله عزّ وجلّ العقلاء حتى يتبانوا على شيء أنه لا يكون العدل حسناً والظلم قبيحاً ، لأنَّ رأيه أن هذه أحكام عقلائية والأحكام العقلائية فرع وجود العقلاء حتى يحصل تبانٍ بينهم ، ففي المرحلة الأسبق على وجود العقلاء يلزم أن لا يكون العدل حسناً والظلم قبيحاً إذ لا يوجد عقلاء حتى يتبانوا على حسن هذا وقبح ذاك ، وهل يحتمل أن يلتزم شخص بذلك ؟!! إنَّ هذا بعيدٌ جداً ، بل إن ذلك كاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، فكما أنَّ استحالة الاجتماع والارتفاع ثابتة قبل خلق الخليقة لا في مرتبة بعديّة كذلك حسن العدل وقبح الظلم فإنهما أحكام عقلية.

ثانياً:- إنه ذكر أنَّ قضيتي حسن العدل وقبح الظلم هي أحكام عقلائية ناشئة من المصالح والمفاسد فيجتمع العقلاء – إما اجتماعاً ظاهرياً أو غير ظاهري - فقرّروا أن مجلس الفاتحة مثلاً يكون ليومين بدلاً من ثلاثة أيام لأنَّ الثلاثة أيام فيها مصاعب أكثر ، فهذا وفق المصالح ، فلابد من وجود مصلحة يتقرّر على أساسها الحكم العقلائي ، والحال أننا نقول إنَّ حسن العدل وقبح الظلم ليس متفرّعاً على مسألة المصلحة والمفسدة ، بل الظلم قبيح بقطع النظر عن عالم المصالح والمفاسد ، فلو فرض أنه كانت هناك دار قديمة لشخصٍ وهي تكاد أن تنهار فيأتي شخص آخر فيؤجر لصاحبها داراً أخرى وينقله إليها ثم يقوم بهدم الدار القديمة وبناءها مجّاناً رغم أنَّ صاحبها لم يرضَ بذلك ، فهذا العمل من زاوية المصالح والمفاسد فيه مصلحة ولكن بالتالي هل تقول إنَّ هذا العمل حسن أو قبيح ؟ إذا كان الحسن ينشأ من المصالح فلابد أن تقول إنَّ هذا العمل حسن والحال أننا نتوقّف في حسنه فإنَّ حسنه أوّل الكلام لأنَّ هذا تصرّف في مال الغير من دون إذنه فنقول إنَّ هذا العمل قبيح رغم وجود المصلحة ، وعلى هذا المنوال يمكن أن نمثّل بأمثلة متعددة ، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أنَّ قضية حسن العدل وقبح الظلم أحكاماً لا تنشأ من المصالح والمفاسد كما في الأحكام العقلائية ، فلو كانت هذه أحكاماً عقلائية كما يقول الشيخ الأصفهاني للزم أنه مع وجود المصلحة يلزم أن تكون حسنة والحال أننا لا نحكم بأنها حسنة ، فهذا يدل على أنَّ حسن العدل وقبح الظلم ليسا من الأحكام العقلائية بل من الأحكام العقلية التي لها ملاكاتها الخاصة ولا تنشأ من المصلحة والمفسدة.

ثالثاً:- إنه ذكر أن حسن العدل وقبح الظلم لو كانا حكمين عقليين فلابد وأن يندرجا في واحدةٍ من القضايا الست والمفروض أنهما لا يندرجان في شيءٍ منها ، ونحن نقول له:- فليندرج في الأوّليات ، فإنَّ القضية الأوّلية هي أن يكون تصوّر الموضوع والمحمول والحكم يكفي للجزم بالحكم والنسبة ، كقضية ( الكل أكبر من الجزء ) فتصوّر الكلّ وتصوّر الجزء وتصوّر الأكبر يكفي في الجزم بالحكم والنسبة ، ونحن نقول له: إذا كان هذه هي القضية الأوّلية فليكن حسن العدل من هذا القبيح ، فمتى ما تصوّرنا الحسن وتصوّرنا العدل فنجزم بصحّة نسبة الحسن إلى العدل وأن العدل حسنٌ من دون توقّفٍ على دليل وبرهان ، هكذا ( الظلم قبيح ) فمجرد تصوّر الطرفين يكفي للجزم بصحّة النسبة.

إن قال قائل:- إنَّ القضية الأوّلية تحتاج إلى ثلاثة أشياء وهي في مثال ( الكل أمبر من الجزء ) الكلّ والجزء والأكبر ، وفي مسألة ( الظلم قبيح ) لا يوجد ثلاثة أطراف بل يوجد طرفان وهما الظلم وقبيح.

قلت:- إنَّ هذا تعبّدٌ بالألفاظ وإلا فروح القضية الأوّلية هي أنَّ تصوّر الأطراف يكفي للجزم بصحة النسبة سواء كانت الاطراف ثلاثة أو اثنان فإنَّ هذا لا يؤثر فإن القضية ليست قضية لفظية حتى نسير وراء الألفاظ ، بل روح المطلب هو أنه يكفي تصوّر الأطراف سواء كانت ثلاثية أو ثنائية للجزم بالنسبة ، وهذا كما هو صادق في قضية ( الكل أكبر من الجزء ) صادق أيضاً في قضية ( الظلم قبيح والعدل حسن ).


[1] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج25، ص118، أبواب الأطعمة المباحة، باب61، ح2، ط آل البیت.