الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/02/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية

وأما في باب الأمارات فقد ذكر ما حاصله[1] :- أنه توجد ثلاثة آراء في المجعول في باب الأمارات ، كالخبر فإنَّ الخبر أمارة ، وما هو المجعول فيها ؟ ، يعني حينما الأمارة جعلت حجة فما هي الحجية ؟

إنه توجد احتمالات ثلاثة:-

الاحتمال الأوّل:- مسلك جعل الحكم المماثل ، يعني أنَّ الشارع حينما جعل الحجية يعني أنه حكم بجعل حكم شرعي مماثل لما أدّى إليه الخبر ، فإذا قال الخبر ( إذا غلى العصير العنبي حرم ) فمعنى حجية الخبر الدال على ذلك هو أنَّ الشرع يجعل حكماً ظاهرياً مماثلاً لما دلّ عليه الخبر ، يعني يجعل حرمة العصير العبي عند الغليان لكنه حكم ظاهري لا كحكم واقعي وهذا يعبر عنه بمسلك جعل الحكم المماثل.

الاحتمال الثاني:- هو جعل المنجّزية والمعذّرية ، وهذا ما يظهر من صاحب الكفاية(قده) في رد شبهة ابن قبة فإنه هناك ذكر أو وظيفة الخبر وما شاكل ذلك من الأمارات هو التنجيز والتعذير ، فمعنى جعلت الخبر حجة أنه ينجّز الواقع عند الاصابة ويعذّر من الواقع عند الخطأ ، وهذا يعبر عنه بمسلك التنجيز والتعذير.

الاحتمال الثالث:- مسلك جعل الطريقية - أي جعل العلمية - ، وهو الذي ذهب إليه الشيخ النائيني(قده) ، وقد فرّع عليه نتائج كثيرة ، وقد يظهر هذا المبنى من بعض عبارات الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل.

والسيد الروحاني(قده) جعل مسلك الحكم المماثل واحداً ، وأما مسلكا جعل المنجّزية والعلمية فلم يجعلهما اثنان وإنما جعلهما واحداً من حيث الآثار والكلام ، فلذلك قال: مرة نتكلم على مسلك جعل الحكم المماثل وأخرى نتكلم على المسلكين الآخرين فذكرهما بحديثٍ واحد:-

أما على مسلك جعل الحكم المماثل فقال[2] :- يمكن أن نجيب بأنَّ المجتهد إذا قامت عنده رواية تدل على حكم يرتبط بالمكلف كأحكام النساء ، فإذا دلت الرواية على ذلك فبناءً على حجية الرواية فحينئذٍ هي تدل على جعل حكم ظاهري مماثل لما دلت عليه ، فإذا كانت الرواية تقول إنه بانقطاع الدم يبقى الحدث إلى أن تغتسل فيثب حكم ظاهري بهذا المضمون مماثل لما دلت عليه الرواية ، وحيث إنَّ المجتهد يعلم بهذا الحكم - حيث قامت الرواية عليه - فيتمكن أن يفتي به ولا موجب حينئذٍ للتوقف بلا حاجة إلى مسألة التنزيل.

وأما بناء على المسلكين الآخرين فقال ما حاصله:- إنه إذا دلّ الخبر على أنَّ الحدث باقٍ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فهناك حجية انشائية وحكم انشائي في حق العامي من دون أن يكون فعلياً - أي في حق المرأة - بأنَّ الحدث بعدُ باقٍ لكن على مستوى الحكم الانشائي ، ويصير هذا الحكم الانشائي فعلياً إذا علم به ، وحيث إنَّ المجتهد قامت عنده الرواية فيصير حكماً فعلياً ويصير المجتهد عالماً بالحكم الفعلي فتمكن أن يفتي به للعامي ، وإذا افتى به للعامي صار العامي عالماً به بسبب فتوى المجتهد ، فتحول الحكم الذي كان انشائياً في حق العامي إلى حكم فعلي ، وبالتالي صار هناك حكم فعلي في حق العامي بلا حاجة إلى مسألة التنزيل.

وفيه:- إنه يظهر من خلال كلامه أنَّ المشكلة التي كانت تعيش في ذهنه غير المشكلة التي كنّا في صدد بيانها ، فإنَّ المشكلة التي كنّا في صدد بيانها هي أن ثبوت الحكم فرع ثبوت الظهور هذا أوّلاً ، وعدم المعارض هذا ثانياً ، وعدم المقيّد والمخصص هذا ثالثاً ، وهذه الأمور لا يقوم بها المكلّف فكيف يثبت الحكم في حقه حتى يتمكن المجتهد أن يفتيه بذلك الحكم ؟!! ، فالمشكلة هي هذه[3] وهي لا تنحل بما أفاده ، إذ مثلاً على مسلك جعل الحكم المماثل حيث قال ( إذا قامت الرواية على الحكم المذكور وهو أنَّ الحدث باقٍ فسوف يصير المجتهد عالماً بالحكم المماثل ) ، ونحن نقول:- دعه يصير عالماً بالحكم المماثل ولكن كيف يفتي به للعامي فإنَّ ثبوت الحكم في حقّ العامي فرع أن يثبت بظهور الرواية والعامي ليس عنده ظهور للرواية وكذلك يلزم أن لا يكون المخصص موجوداً وهكذا المقيد .... وهكذا ، وهذه الأمور ليست ثابتة في حق العامي حتى يثبت الحكم في حقه حتى يفتي به المجتهد !! ، فبالتالي نحتاج إلى فكرة التنزيل ونقول صحيح أنَّ العامي لا ظهور في حقه ولا فحص عن المعارض ولا غير ذلك ولكن المجتهد نائب عنه في هذه الأمور ، فإنَّ المشكلة هي هذه وهي لا تنحل بما ذكره(قده) ، إنما الذي ذكره يرتبط بمشكلة أخرى وهي أنَّ الحكم مادام خاصاً بالمجتهد مثلاً فكيف يعمّ العامي ، فهنا صار الحكم فعلياً في حقّ المجتهد فكيف يصير فعلياً في حق العامي حتى يفتيه به ؟ فهو حاول أن يتخلّص من هذه المشكلة فقال هو حينما يفتيه فالمكلف سوف يعلم به فيتحوّل من الانشائية إلى الفعلية ، ولكن هذا لا يحل مشكلتنا بل يبقى أصل ظهور الرواية ليس ثابتاً عند المكلف ولا عدم المعارض ولا غيرهما ، فهذه الأمور المهمة ليست ثابتة عنده وهذه المشكلة لا تنحل إلا بفكرة النيابة دون ما ذكره(قده).

وبهذا ننهي حديثنا عن مشكلة توجيه الافتاء ، وعرفنا أنَّ المجتهد لا يمكن أن يثبت جواز الافتاء في حقه إلا إذا قلنا بفكرة النيابة وأن المجتهد نائب عن العامي في تحقيق الظهور وفي الفحص عن المعارض وعن المقيد والمثبت لهذه النيابة هو نفس دليل جواز التقليد ونفس دليل جواز الافتاء - ( اجلس في المسجد وفات الناس ) - فهذا بنفسه يدل بالالتزام على فكرة النيابة كما ذكرنا.


[1] منتقى الأصول، السيد عبد الصاحب الحكيم، ج4، ص16.
[2] وهو الان لا يريد أن يختار فكرة لتنزيل وان دليل جواز الافتاء يدل بالالتزام على النزيل، كلا هو لا يريد أن يتبنى هاذ بل يريد أن يخرّج بغض النظر عن فكرة التنزيل.
[3] وهي أن المكلف العامي لم يثبت عنده ظهور ولم يثبت عنده فحص عن المعارض ولم يثبت عنده فحص عن المقيد والمخصص فالحكم ليس ثابتاً في حقه لأجل هذه الأمور فكيف تفتيه أيها المجتهد ؟.