الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/02/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية

الاشكال الثاني:- إنه بناءً على استفادة تنزيل فحص المجتهد بمثابة فحص العامي ويقين المجتهد وشكه بمثابة يقين وشك العامي واستفادة هذا التنزيل من دليل جواز التقليد يلزم أنَّ الذي يجوز له الافتاء هو المجتهد الأعلم العادل ، أما إذا لم يكن المجتهد أعلماً فلا يجوز له الافتاء ، لأنَّ الافتاء فرع ثبوت التنزيل ، والتنزيل إنما نستفيده من دليل جواز الافتاء ، ودليل جواز الافتاء يقول إذا جاز الافتاء للمجتهد وجاز تقليد المجتهد فنستفيد بالدلالة الالتزامية التنزيل ، والمفروض أنَّ هذا لا يجوز تقليده لأنه ليس بأعلم أو لأنه ليس بعادل ، فإذا لم يكن أعلماً أو ليس بعادلٍ فتقليده لا يجوز ، وإذا لم يجز تقليده فلا مثبت للتنزيل ، لأنَّ التنزيل نستفيده من دليل جواز التقليد ، وإذا لم يثبت التنزيل فلا يثبت جواز الافتاء له - يعني غير الأعلم وغير العادل لا يجوز لهما الافتاء - ، وهل تلتزم بذلك ؟ إنه واضح البطلان.

وفيه:-

أوّلاً:- فلأن لمجتهد حينما يفتي يرى نفسه أعلماً - ولا أقل في هذه المسألة - ويرى نفسه عادلاً ، ومادام يرى نفسه كذلك فيرى جواز تقليده في هذا المورد - لأنه يرى نفسه أعلماً وعادلاً - وإذا كان يرى جواز تقليده فسوف يرى بالدلالة التزامية أنَّ فحصه بمثابة فحص المكلف العامي - يعني فحصه عن المعارض والمقيّد والمخصّص - وهكذا يقينه وشكه بمثابة يقين وشك العامي ، وحينئذٍ يجوز له الافتاء مادام هو يرى نفسه أعلماً وعادلاً.

وفذلكة ما ذكرناه في الجواب وروحه ترجع إلى عبارة أخرى حيث نتمكن أن نقول:- إنه لا توجد صغرى لهذا الاشكال ، لأنه قال إنه يلزم أنَّه لا يجوز للمجتهد غير الأعلم أو غير العادل الافتاء ، ونحن نقول: إذا كانت هناك صغرى فلا بأس بذلك ، ولكن لا توجد صغرى ، لأنَّ كل مجتهد غير أعلم في الواقع هو يرى نفسه أنه أعلم ويرى نفسه أنه عادل ، فعلى هذا الأساس هو لا يرى مشكلة في البين ، فهو يرى نفسه أعلم وبالتالي يجوز تقليده بهذه المسألة ، وبالتالي يجوز له الافتاء ، لأنه إذا ثبت جواز تقليده فسوف يثبت التنزيل ، فيثبت جواز الافتاء ولا مشكلة.

ثانياً:- ما المقصود من ( عدم جواز افتاء غير الأعلم ) وأنه يلزم عدم جواز افتاء غير الأعلم وغير العادل ، فما المقصود من عدم الجواز ؟ إنَّ عبارة ( عدم الجواز ) ذات معنيين أو ذات احتمالين ، فهل المراد هو الحرمة التكليفية أو المراد هو عدم الحجية - يعني لا حجية ولا اعتبار لفتواه - ؟

والصحيح: إنَّ غاية ما يلزم هو عدم الاعتبار لفتواه ، لأنه لم يثبت جواز تقليده ، فإذا لم يثبت جواز تقليده لم يثبت التنزيل ، لأنَّ النزيل نستفيده من جواز التقليد ، فلم يثبت أنَّ فتواه معتبرة وذات طابع شرعي وذات حجية ، فإنَّ الصحيح هو هذا لا أنَّ هناك حرمة تكليفية حتى يقال ما ذكر.

إذن لابد أن نفرّق بين قضيتين ، بين أن نقول: إنه يلزم أن تكون فتوى غير الأعلم وغير العادل محرّمة تكليفاً وهذا شيء لا يمكن الالتزام به ، بل غاية ما يلزم هو عدم شرعية فتواه وهذا شيء يمكن أن يلتزم به ولا محذور فيه ، فنقول إنَّ فتوى غير الأعلم ليست جائزة ولكن معنى الجواز هو عدم الشرعية وعدم النفوذ وليس الحرمة الموجبة لاستحقاق العقوبة.

فإذاً هذا الاشكال مندفع أيضاً.

كلام للسيد الروحاني(قده):- ذكر السيد الروحاني(قده)[1] جواباً آخر عن أصل الاشكال - الذي هو أنه كيف يفتي المجتهد والحال أنَّ العامي لا فحص له عن المقيّد والمعارض ولا يقين ولا شك له حتى يجري الاستصحاب في حقه - بغير ما ذكرناه - من أنه نستفيد من دليل جواز التقليد نيابة المجتهد وتنزيله في فحصه وغير ذلك منزلة المكلف العامي أو وكيل ونائب عنه – فقال: يمكن أن نجيب بهذا الجواب ، وقد أجاب بجوابٍ تارةً بلحاظ باب الاستصحاب وأخرى بلحاظ الأمارات:

أما بلحاظ الاستصحاب فقال:- إنَّ المجتهد يمكن أن يجري الاستصحاب بلحاظ يقينه هو وشكّه هو فإنَّ المجتهد عنده يقين بأنَّ المرأة إذا نزل منها الدم سوف تصير حائضاً وإذا انقطع الدم ولم تغتسل فالمجتهد نفسه يشك في بقاء حيضها فيجري الاستصحاب بلحاظ يقينه هو وشكه هو ويتمسّك بدليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) ، ولا يحتاج إلى عملية تنزيل ولا غير ذلك بل ابتداءً المجتهد نفسه يقول أنا عندي يقين وأنا عندي شك ، فعندي يقين بأنَّ هذه المرأة التي نزل منها الدم أو تلك المرأة أو أيّ امرأة نزل منها الدم عندي يقين بأنها حائض ثم حينما يتوقّف الدم وقبل الاغتسال أشك في حصول الطهر فاستصحب بقاء الحيض إلى أن تغتسل فأطبق حينئذٍ الاستصحاب بلحاظ يقيني أنا المجتهد وبلحاظ شكي ولا احتاج إلى نيابة عن المكلّف العامي في يقينه وفي شكة ولا حاجة لمسألة التنزيل والنيابة عنه وغير ذلك.

ثم قال:- إن قلت: إنَّ هذا لغو يعني أن يلاحظ المجتهد اليقين بالحكم غيره والشك بلحاظ حكم غيره فإنه هذا لغو فإنَّ النافع هو اليقين بحكم الشخص نفسه أما يقين بحكم الآخرين أو شك بحكمهم لا يسمن ولا يغني من جوع فإنه لا أثر فيه ، فإذن لا يمكن تطبيق دليل الاستصحاب.

قلت:- إنه ليس بلغوٍ فإنَّ الأثر يظهر في جواز الافتاء ، إذ المجتهد حينما يلاحظ يقينه بأنَّ المرأة حائض حينما نزل منها الدم ويلاحظ شك نفسه بأنها هل بَعدُ حائض أو لا فإذا أجرى الاستصحاب فيتمكن أن يفتي بأنَّ المرأة التي نزل منها الدم وحصل لها النقاء لكن من دون اغتسال هي حائض ، وهذه ثمرة ، نعم إذا لم يكن الافتاء موجوداً فصحيح أنَّ هذا يصير لغواً ، أما بعد أن افترضنا جواز الافتاء فلا توجد لغوية حينئذٍ.

فإذن هو(قده) دفع المشكلة بلحاظ الاستصحاب ، وهذا قد ذكره سابقاً والآن كرّرته لأنَّ له مطلباً اضافياً.

وفي مقام الجواب نقول:- إن هذا يتم إذا كان ظاهر دليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو لا تنقض اليقين بأحكامك ، أو بتعبير آخر بما يرتبط بك وأيضاً بما يرتبط بغيرك من أحكام ، وهذا خلاف الظاهر ، فإن المفهوم من ( لا تنقض اليقين بالشك ) يعني لا تنقض اليقين بأحكامك وبما يرتبط بك أما بما ترتبط بالغير فدليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) منصرف عنه ، فالظهور في السعة ليس موجوداً فيه حتى يمكن تطبيق هذه الفكرة.

والخلاصة:- إنَّ هذه المحاولة من السيد الروحاني(قده) إنما تكون مقبولة في باب الاستصحاب لو كانت روايات الاستصحاب فيها ظهور في السعة ، يعني لا تنقض اليقين بأحكام نفسك ولا بأحكام غيرك وهذا بعيد ، ولا أقل لا ظهور في السعة المذكورة ، فمحاولته هذه - في باب الاستصحاب - باطلة.


[1] منتقى الأصول، السيد عبد الصاحب الحكيم، ج4، ص16.