الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/02/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية

وربما يشكل على هذا الجواب الذي ذكرناه بالاشكالين التاليين:-

الاشكال الأول:- ويمكن بيانه ضمن صيغتين:-

الصيغة الأولى:- إنَّ الدليل المهم على جواز التقليد هو السيرة العقلائية ، ومن المعلوم أنَّ العقلاء ليس عندهم قضية التنزيل - أي تنزيل المجتهد في الفحص منزلة العامي وأنه نائب عنه – فإنهم بعيدون كل البعد عن هذه المعاني ، فإذاً ما دام الدليل على جواز التقليد هو سيرة العقلاء في الرجوع إلى كل صاحب فنٍّ في فنّه ومن مصاديق ذلك المجتهد فإنه صاحب فنّ في معرفة الأحكام الشرعية ، فكما يرجع إلى المهندس في قضايا الهندسية الطبيب في قضايا الطب وغيرهما كذلك هنا ، فإذن بالدلالة الالتزامية لا يمكن أن نستكشف تنزيل المجتهد تنزيل العامي في قضايا الفحص وغير ذلك.

وفيه:- صحيح إنَّ سيرة العقلاء دليل مهم على جواز التقليد لكن بالتالي هي تحتاج إلى امضاء لكي تصير حجة ، إذ لو لم يكن هناك امضاء فهي ليست حجة وإذا كان هناك امضاء من قبل الشارع فنقول إنَّ ذلك الامضاء الشرعي الذي استكشفناه من خلال عدم الردع هو يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على عملية تنزيل فحص المجتهد منزلة فحص العامي.

الصيغة الثانية:- ما جاء في كلمات السيد الروحاني(قده)[1] حيث قال: إن الدليل على جواز التقليد وحجيته هو دليل الانسداد ، ودليل الانسداد لا يقتضي التنزيل ، فإنَّ الدلالة الالتزامية أو دلالة الاقتضاء هي من شؤون الأدلة اللفظية ودليل الانسداد ليس دليلاً لفظياً حتى تضم إليه دلالة الاقتضاء فإّن لا يمكن أن نستكشف عملية التنزيل.

توضيح ما ذكره(قده):- فهو قال إنَّ دليل جوز التقليد هو الانسداد ، ومعنى هذا بتعبير آخر: إن المكلّف العامي لا يعرف الأحكام الشرعية وباب العلم بها منسدٌّ عليه ولا يوجد عنده باب آخر غير التقليد فعبّر عنه بباب الانسداد ، فإذا صار انسداداً فحينئذٍ يأتي كلامه من أنَّ دليل الانسداد ليس دليلاً لفظياً وإذا كان لم يكن دليلاً لفظياً فلا تأتي دلالة الاقتضاء لأنها من شؤون لأدلة اللفظية.

وتوجد جملة معترضة:- هي أني ذكرت في دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي دليلاً على جواز التقليد لا أقول هو غير دليل الانسداد وإنما هو دليل الانسداد ولكن بصياغة أخرى فيلزم الالتفات إلى ذلك ، لأنه في زمننا قد يطالب البعض بالدليل على جواز التقليد فنقول له: إذا لا نريد أن نقلد فماذا نفعل فكيف نصلّي وكيف نصوم ونحج فإن الصلاة لها أحكام وكذلك الصوم والحج وهذه الوجبات ليس كل أحكامها اتفاقية فلو كانت أحكامها اتفاقية فلا بأس ، ولكن مادامت ليست اتفاقية وهناك موارد للاختلاف فإذا أردت أن لا أقلد - أنا البقال أو الحمّال - فلابد أن أصير مجتهداً أو محتاطاً ، والاحتياط ليس قضية ممكنة للعوام ، بل قد يصعب ذلك حتى على طالب العلم إذ لابد أن يعرف كيف يكون الاحتياط ، وكذلك الاحتياط في نفسه صعب كأن يلزمك أن تكرّر العمل ، مثلاً في مسألة الذبح يلزم أن تكررها في يومين ، فإذاً هذا يحتاج إلى معرفة وإلى تكرار بهذا الشكل وهذا التكرار صعب ، فالاحتياط ليس من شأن العامي ، ونحن كذلك لا نتمكن من الاحتياط في كلّ المسائل نعم قد نحتاط في مسألة أو مسألتين أو مائة مسألة ، فإذن لا يمكن الاجتهاد ولا يمكن الاحتياط ، والتقليد أنت قلت لا دليل عليه فهل نترك كل الواجبات فلا نصوم ولا نصلّي ولا نحج ولا نزكّي ؟!! ، وهذا قد ذكرناه في دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي ، وهل هو دليل آخر هذا غير دليل الانسداد أو لا ؟ ، ولعلّ دليل الانسداد الذي ذكره السيد الروحاني(قده) هو ما بيّناه ولكن هذه الصياغة أوضح.

وفيه:- إنَّ دليل الانسداد إما أن نبني فيه على مسلك الحكومة أو على مسلك الكشف ، فبعد تمامية دليل الانسداد إما أن نبني على أنَّ العقل يحكم بحجية الظن الحاصل من التقليد ، أو نستكشف أنَّ الشارع جعل العقل يستكشف أنَّ الشارع جعل الظن حجة - فدور العقل ليس دور الحاكم وإنما دوره أن يستكشف - ، فإن بني على الحكومة يعني العقل يحكم بأنَّ الشرع لابد أنه قد جعل الظن الحاصل من التقليد حجة فنجيب ونقول إنَّ هذا العقل الذي حكم بهذا هو بنفسه أيضاً يحكم لأجل أن يتمّ هذا الحكم العقلي ، فالعقل لابد أن يحكم بحكمٍ آخر وهو أنَّ فحص المجتهد بمثابة فحص العامي وإلا إذا لم يحكم العقل بهذا فلا يستطيع أن يحكم بالحكم الأوّل فإنَّ تمامية الحكم الأوّل هي فرع تمامية الحكم الثاني - يعني فرع أن يكون فحص المجتهد بمثابة فحص العامي - ، فمتى ما فرضنا تحقق الحكم الأوّل من العقل فجزماً سوف يحصل إلى جانبه الحكم الثاني.

وأما إذا بنينا على مسلك الكشف - يعني أنَّ العقل يستكشف أنَّ الشارع قد جعل الظن الحاصل من التقليد حجة - فنقول:- إنَّ العقل كما استكشف هذا يستكشف أيضاً أنَّ الشارع قد نزّل فحص المجتهد بمثابة فحص العامي ، إذ لو لم يتحقق منه هذا التنزيل الثاني لما أمكن التنزيل الأوّل ، فالتنزيل الأوّل من قبل الشارع المقدّس يستلزم تحقق التنزيل الثاني ، فيكشف عن تحقق التنزيل الثاني كشفاً شرعياً ، فلا مشكلة في البين.

إن قلت:- إنَّ هذا وجيه ولكه لا يدخل تحت مصطلح دلالة الاقتضاء ونحن كنّا نتكلّم عن دلالة الاقتضاء فإنَّ دلالة الاقتضاء من شؤون الأدلة اللفظية ؟

قلت:- إنَّ مصطلح دلالة الاقتضاء ليس له أهمية ، بل المهم واقع الحال ، وواقع الحال كما ذكرنا ، فبناء على مسلك الحكومة العقلية حتماً العقل يحكم بحكمٍ آخر وهو أنَّ فحص المجتهد بمثابة فحص العامي ، وبناءً على الكشف حتما ًالعقل يستكشف حكماً شرعياً آخر وهو أنَّ الشرع نزّل فحص المجتهد منزلة فحص العامي، وهذا وإن لم يسمَّ بدلالة الاقتضاء إلا أنَّ علينا الأخذ وبواقع الحال لا ملاحظة الألفاظ.


[1] منتقى الأصول، السيد الروحاني، ج4، ص1، 20.